حينَ التقيتُ عمرَ البشير جِوار حديقة لويس السادس عشر
عمر حسن البشير ضابط بين آخرين مثله لا يملكون من أمور حُكم بلدانهم إلا الشيء اليسير فينزلون بها إلى القاع في ظلّ خطاب حُكم خَشَبي مُثير للاشمئزاز.
بُعيدَ احتلال الكويت عام 1990 تلقّيتُ إتصالاً من السفير السوداني في باريس، كنتُ أعرفه كما أعرف القسم الأكبر من السفراء العرب بحُكم المهنة. طلبَ مني صبيحة ذلك اليوم، أن أوافيهِ إلى فندق "موريس" الفخمْ الواقع في شارع ريفولي وسط العاصمة، والمُطلِّ على حدائق أل "تويليري" العائدة لقصرٍ يحمل الإسم نفسه، عاش فيه لويس الرابع عشر آخر أيامه مع زوجته ماري أنطوانيت، وأُعدِمَ الزوجان في ساحة الكونكورد المُلاصِقة للحدائق، وكان إسمها حينذاك ساحة الثورة.
عندما طلبتُ من السفير أن يُخبرني عن سبب اللقاء، تحفَّظ قائلاً "لقاء مهم" سترى بنفسك. بعد أقل من ساعة، كنت في الفندق الذي يُعتَبرُ قبلة الشخصيات البريطانية والأميركية التي تزور فرنسا. وخلال دقائق كنتُ في جناح الرئيس الإنقلابي عمر البشير.
كانت مُفاجأة غير متوقَّعة بالنسبة لي. المُدهِش أكثر أنني كنت وحيداً، فالسفير حَرِصَ على عدم دعوة صحافيين آخرين. سأعرف من بعد أن طالباً سودانياً في جامعة السوربون، كنت استكتبه في مجلة "اليوم السابع" وكان يهتّمُ بما أكتب وبما أقول، هو الذي أوصى باللقاء من موقعه في الحُكم ممثلاً جناح "الإخوان المسلمين" بزعامة الدكتور الراحل حسن الترابي.
بدا الرئيس البشير في اللقاء مُتواضعاً للغاية، شأنه شأن العسكريين الذي أمضوا حياتهم في الخدمة، مع فارِقٍ أنه ينتمي إلى قبائل فندي النافِذة في السودان. يُجيد الإنصات والرغبة في الإطّلاع والتعرُّف. سأراه في مناسباتٍ أخرى من بعد في الخرطوم، ولن يتغيَّر انطباعي هذا إلا في مرة واحدة عندما أكّد لي في لقاء على هامش "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي" أنه تحمَّل مسؤولية "ثورة الإنقاذ" وأنه لن يتخلّى عن هذه المسؤولية ما دام حياً، في إشارة انفصالية مُبكِرة عن شركائه الإسلاميين الذين جاؤوا به إلى الحُكم. التطوّرات اللاحقة ستؤكّد هذا الإلتزام الذي ينتهي هذه الأيام عبر حراك مزدوج من الشارع والعسكر.
في فندق "موريس" أجبت عن أسئلة الرئيس السوداني وكنت أظنّ أنني مدعو للإستماع إلى أجوبته. كان حريصاً على معرفة تقدير الموقف الفرنسي والأوروبي إزاء احتلال الكويت، فأجتهدت بتلخيص قراءاتي في الصحف الأجنبية، وبدا مهتّماً إلى حد أنه طلب من أحد مُساعديه أن يُسجِّل ملاحظاتي، وكنت كلما انتهيت من إجابة يُبادرني بسؤالٍ استفهامي وهكذا دواليك طوال أكثر من ساعة.
عندما سألته عن طبيعة ثورته وإن كانت تشبه ثورة الفرنسيين الذين أرسلوا الملك وزوجته إلى المقصلة على مقربة من الفندق حيث كنا، ابتسم البشير وقال ألا مقصلة في الخرطوم وأنه جاء لإسقاط المسؤولين السابقين وإنقاذ السودان من فسادهم، الأمر الذي سيتكرَّر حرفياً في هذه اللحظات حيث سيتخلّص عسكريون من البشير بغرض إنقاذ البلاد من فساد حُكمه.
خرجت بانطباع من اللقاء بأن الرئيس "الثوري" لا يملك من أمر الموقع الأول في السلطة الذي يشغله سوى الرتبة العسكرية. وهَالني التعمُّق في هذا الإنطباع عن حاكم بلد أشبه بالقارة كالسودان، إذ تبلغ مساحته مليون و88 ألف كلم مربع ويتجاوز عدد سكانه ال 40 مليون نسمة ويُعتَبر سلّة غذاء عملاقة للعالم العربي إن أُحْسِنتْ إدارته هذا فضلاً عن موقعه على البحر الأحمر ونهر النيل وشرق إفريقيا.
ستبيّن سنوات الحُكم التي أمضاها البشير على رأس السلطة، أن انطباعي الأول كان على تماس مع الواقع وذلك ابتداء من سوء فَهْم مهول وقع لي شخصياً في الخرطوم، مروراً بسوء تدبير الحُكم في الداخل وبالسياسة الخارجية البائسة التي ألحقت أذى بالسودان والسودانيين على كل صعيد.
قبل أن أغادر جناح الرئيس في الفندق سألني إن كنت قد زرت بلاده من قبل وإذ عَلِمَ أنني لم أفعل طلب مني أن ألبّي دعوته في أقرب وقت أراه مناسباً، وهو ما حصل بعد أن تلقّيت دعوة رسمية من الرئاسة، إلا أنني اعتُقِلت لساعاتٍ في مطار العاصمة وتعرَّضت للترهيب لأن سكريتاريا الرئاسة لم تبلغ إدارة المطار "الثورية" بوصولي، وتلقّيت اعتذاراً رسمياً من بعد من دون أن تنتهي حلقات سوء الفَهْم في كل الزيارات اللاحقة.
أما سيرة الحُكم خلال سنوات البشير فهي مُثيرة للشفقة. ابتداء من مسرحية سجن الداعية الإسلامي حسن الترابي لذرّ الرماد في العيون على الإنقلاب الذي قدّم بوصفه حركة مُناهضة للفساد الحزبي، إلى الإفراج عن الترابي في ما بعد وتقديمه بوصفه الحاكِم الفعلي للسودان ، وأن البشير هو أحد مُريديه أكثر من كونه رئيساً للجمهورية.
هكذا سنرى الترابي يحوِّل الخرطوم إلى عاصمة لأممية إسلامية جمعت كل تيارات الإسلام السياسي في العالم بغضّ النظر عن مذاهبها ومصادرها العقيدية ، بما في ذلك "القاعدة" وزعيمها بن لادن ولكن التجربة لن تعمِّر طويلاً وسيدفع الترابي ثمناً لها وسيتحوّل من راعٍ لنظام البشير إلى خصمٍ له وصولاً إلى تفجير جبهة دارفور. وسيغيب الترابي عن حكم البشير الذي سيسعى للتعويض عن خسارته بالتخلّي عن جنوب السودان لكسب ودّ الأميركيين، لكنه سيخسر الجنوب وسيُحال إلى محكمة الجنايات الدولية ولن تُدافِع واشنطن عنه، وسيبدو بنظر العرب المسؤول الأول عن تقسيم بلاده والسماح بإنشاء كيان مؤيِّد للصهاينة في وادي النيل.
لن يتمكّن البشير من استغلال النفط السوداني طويلاً بسبب الحصار على بلاده من جهة، وبسبب سياسته الخارجية البهلوانية من جهة ثانية. فهو حليف لإيران وباحثٌ عن تقريب المذاهب تارة وعدو لإيران ومُتحامِل عليها تارة أخرى بتهمة تشيّع السودانيين، وذلك من أجل كسب ودّ السعودية التي تخلّتْ عنه ولم تُعدِّل موقفها منه إلا بعد أن بادر إلى الزجّ بفرقة من جيشه في الحرب ضد فقراء اليمن. وكان قد خسر الحليف القطري بعد أن اقتلع الإخوان من الحُكم. وكان قد تحالف مع الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح من أجل خلق تكتل ثلاثي مع إثيوبيا على البحر الأحمر، إلا أنه تراجع من بعد وصولاً إلى ربيع الزّفت العربي حيث ساعدته دول الخليج على شراء السلم الاجتماعي، ولكنها تخلّت عنه في مُنتصف الطريق ليجد نفسه في سوريا الأسد ساعياً لتحقيق التضامن العربي.
ثلاثون عاماً أمضاها عمر البشير في حُكم بلد بوسائل سياسية متواضعة وبثقافة سياسية محدودة أفضت إلى تمريغ أنف السودان ـــــ عملاق العرب وإفريقيا ـــــ بالوحل وإلى استفزاز السودانيين الذين وعدهم بمُكافحة الفساد فإذا به يفشل في توفير الخبز لهم.
عمر حسن البشير ضابط بين آخرين مثله لا يملكون من أمور حُكم بلدانهم إلا الشيء اليسير فينزلون بها إلى القاع في ظلّ خطاب حُكم خَشَبي مُثير للاشمئزاز.