دمشق ـــــ الجزائر "خاوة خاوة"
ما من شك في أن الجزائريين الذين عانوا طويلاً من العنف في عشريّتهم المذكورة، قرّروا هذه الأيام التزام أقصى درجات الحَذَر، للحؤول دون افتتاح عشريّة دموية جديدة أو أكثر. ولعلّ من المفيد الإشارة إلى استجابتهم أو القسم الأهمّ منهم، لدعوة بوتفليقة التصالحية واعتذاره عن التقصير الذي وقع خلال حكمه، علماً أن مرض الرئيس وإعاقته ربما لَعِبَا دوراً في الإنصراف عن التنكيل به معنوياً والإكتفاء باستقالته.
يقطعُ الحراك المليوني الجزائري مع مشاهد "ربيع الزفت العربي" ويتطابق في عناصر أساسية. الافتراق الأول أنه مازال حتى الآن بلا تمثيل معروف، وبلا وجهٍ أو وجوه يمكن أن نختصر بها الحراك ونُشَخصِنَهُ، على غرار وجوه قادة الإخوان المسلمين في مصر واليمن أو قادة النهضة والتيار القومي في تونس، أو أصدقاء الكاتب الفرنسي الميلونير برنار هنري ليفي في ليبيا، أو ممثلي الأحزاب السياسية التقليدية في سوريا.
والثاني أنه حراكٌ بلا عنف ودم، فالجزائر شهدت ملايين الناس ينزلون إلى الشوارع في العاصمة وكل المدن والمحافظات، من دون وقوع حوادث تُذْكَر. الراجِح أن الأثر الرادع للعشريّة السوداء، كان وما زال، يلعب دوراً مهماً في الإمتناع عن الإستفزاز من جهة المتظاهرين، والانضباط في حدّه الأقصى من جهة رجال الأمن. كان هُتاف "الجيش والشعب خاوة خاوة " يُصاحِبُ الهُتافات المطلبية الأخرى.
والثالث أن النزعة الوطنية الجزائرية الغالبة، والوافدة من ثقافة سياسية متينة، ومن إرثٍ طويلٍ في مكافحة الأجنبي، بل من معركة وجودٍ معه، هذا الإرث لعب هذه المرة دوراً رادِعاً للتدخّل الأجنبي في الشؤون الداخلية الجزائرية. لمسنا ذلك من خلال التصريحات "المُهذّبة" والمُتحفّظة للولايات المتحدة وفرنسا وروسيا فضلاً عن الدول العربية التي أجمعت على القول إن ما يدور في الجزائر قضية داخلية. نستثني من ذلك فروع الإخوان المسلمين الخارجية والتغطية الإعلامية للقنوات المرتبطة بهم، لكن التدخّل الإخواني خَلّف ردود فعل معاكسة أدّت إلى تدعيم إستقلالية الحراك.
إن المقارنة بين التدخّل الأجنبي في العشريّة السوداء وحراك اليوم تُفيدُ أن التدخّل في العشريّة كان أهم وأكبر بما لا يُقاس من التدخّل المُخفّف الذي صاحبَ حراك آذار ــــــ مارس وإفريل ــــــــ نيسان الجاري، ومن المُنتظر أن يبقى على حاله في ما تبقّى من التطوّرات بعد استقالة الرئيس بوتفليقة.
والرابع هو أن المتظاهرين لم يُعبِّروا عن مطالبهم بطريقةٍ إنتقامية حتى إزاء ما سُمِّيَ ب "العصابة" المحيطة بالرئيس الجزائري، فالشعار الغالِب كان "إرحلوا" أَعيدوا الأموال المنهوبة للخزينة فقط من دون إضافات مُهينة أو مُتوّعّدة بالإنتقام والدم، بخلاف ما رأيناه في البلدان العربية الأخرى، بصورةٍ خاصةٍ في ليبيا. فالسيّدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية، طلبتْ شخصياً من الليبيين قتل العقيد معمّر القذافي، في حين طلبت الولايات المتحدة الأميركية من الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، مغادرة تونس وطلبت من المصري حسني مبارك التنازل عن الحكم. وتمّ قتل الرئيس العراقي صدّام حسين شنقاً واليَمني علي عبدالله صالح برصاصةٍ في الرأس.
ما من شك في أن الجزائريين الذين عانوا طويلاً من العنف في عشريّتهم المذكورة، قرّروا هذه الأيام التزام أقصى درجات الحَذَر، للحؤول دون افتتاح عشريّة دموية جديدة أو أكثر. ولعلّ من المفيد الإشارة إلى استجابتهم أو القسم الأهمّ منهم، لدعوة بوتفليقة التصالحية واعتذاره عن التقصير الذي وقع خلال حكمه، علماً أن مرض الرئيس وإعاقته ربما لَعِبَا دوراً في الإنصراف عن التنكيل به معنوياً والإكتفاء باستقالته.
والخامس يكمُن في حرص الحراك على الثوابت الجزائرية التقليدية وعلى رأسها إلتزام الناس بالقضية الفلسطينية وتأكيدهم أن حراكهم هو أيضاً من أجل فلسطين ولا أيادي غربية خلفه. وهذا فارِق أساسي مع حركات "ربيع الزفت" التي حرصت على الإبتعاد عن القضية الفلسطينية مُعتبرة أن التغطية والدعم الخارجي لا يُغري المتبوعين الأجانب الذين لا يتعاطفون مع حركة مطلبية متمسّكة بالحقوق الفلسطينية.
بالمقابل تطابقت المسيرات الجزائرية مع بعض أوجه الإنتفاضات العربية وأولها الإستناد إلى وسائل التواصل الإجتماعي في التنظيم والتأطير والتحريض واختلاط الأحزاب التقليدية بالحركات الشبابية وكافة قطاعات المجتمع. وثانيها الإستناد إلى الجيش وتحييده عن الولاء للسلطة، كما في مصر وتونس، عِلماً بأن الجيش الجزائري كان ومازال يلعب دوراً حاسماً في تشكيل السلطة في البلاد. وثالثها إجتماع أسباب إقتصادية وإجتماعية فضلاً عن أزمة البطالة في سوق العمل وانهيار أسعار النفط، ما حرم السلطة من وسائل "شراء" السِلمْ الإجتماعي والحؤول دون نزول الناس إلى الشوارع. ورابعها طول مدّة الحكم معطوفة على إعاقة الرئيس وهذا جانب مشترك مع كل الحركات الأخرى.
وخامسها عرض ما يمكن تسميته بكبش أو أكباش المحرقة عبر حملة منظمة يُراد منها تجسيد الظلم والفساد بمسؤولين في الدولة. في الجزائر تحدّث المتظاهرون عن عصابة أحاطت بالرئيس وطالبوا بتفكيكها. منع الجيش سفر رجال الأعمال الذين اتّهمهم الشارع وأبرزهم علي حداد الذي حاول الخروج من البلاد متستّراً ولا نعرف إن كان القضاء سيتحرّك لتوقيف آخرين ومحاكمتهم ، لكن الراجِح أن يتم ذلك بعد اكتمال الإنتقال من السلطة السابقة إلى سلطة جديدة تبعث الإطمئنان في نفوس المتظاهرين.
إن نجاح الجزائرين، حتى الآن على الأقل، في تحقيق مطلبهم الأساس في حمل رئيس الجمهورية على التنحّي سلمياً عن الحُكم، وفي إبعاد حراكهم عن التدخّلات الأجنبية، وفي التعبير عن تمسّكهم بالقضية الفلسطينية وإبعاد بلادهم عن "ربيع الزفت العربي" وفي صون جيشهم ومؤسّساتهم، كل ذلك يفتح الباب واسعاً أمام إعادة الإعتبار للحراك الشعبي العربي بوصفه وسيلة وطنية لنَيْل مطالب وطنية وليس منصّة لتحسين شروط التبعية واستبدال حاكم أو منظومة حُكم تابعة للأجنبي بحاكم أو منظومة حُكم من الطينة نفسها إن لم تكن أكثر تبعية وأضعف مرتبة.
إن اكتمال انتقال السلطة في الجزائر بصورةٍ سلميةٍ من فريق الرئيس بوتفليقة، الذي رفض الشارع اعتباره رئيساً مخلوعاً بل سابقاً، من شأنه أن يتّصل من موقع آخر بمقاومة الدولة والقسم الأكبر من الشعب السوري للحملة الدولية على سوريا من أجل إخضاعها وتفتتيها في سياق تحسين البيئة الأمنية للدولة العبرية.
إن اكتمال الانتقال السلمي للسلطة في الجزائر في السياق الذي ارتسمت ملامحه حتى الآن، يمكن أن يرسي في العالم العربي جسراً سورياً في المشرق وجزائرياً في المغرب ليشكّل معبراً للانتقال بحركات التغيير والنهضة العربية من موقع التابع وشروط تبعيّته للأجنبي إلى موقع الحر والسيّد القادِر على الشراكة مع الأجنبي وردعه وانتزاع احترامه .. بالانتظار يمكننا القول بلغة الجزائريين سوريا الجزائر "خاوة خاوة ".