مقهى ريش مُلتقى الأفندية والمُثقّفين

مقهى ريش (تأسّس عام 1908م) على أنقاض قصر محمّد علي في القاهرة كان أكبر تجمّع للمُثقّفين والسياسيين في المنطقة العربية. فيما شيّد المقهى رجل الأعمال النمساوي بيرنارد ستينبرج، وباعه عام 1914، إلى رجل الأعمال الفرنسي هنري بير، أحد الرعايا الفرنسيين، الذي أطلق على الكافيه إسم "ريش"، ليتشابه مع أشهر مقاهي باريس.

إذا أردت أن تقف على عَبَق التاريخ المصري في المائة عام الماضية عليك الذهاب إلى مقهى ريش في ميدان طلعت حرب في وسط العاصمة المصرية القاهرة القريب من ميدان الإسماعيلية ( ميدان التحرير حالياً).
كانت ثورة 1919 التي يحتفل المصريون بمرور مائة عام على اندلاعها ثورة مجيدة في تاريخ مصر ذات القيادة المدنية ، وكان من نتائجها تصريح 28 فبراير بداية استقلال مصر المنقوص ودستور 23 من أشهر دساتير مصر . جمعت ثورة 19 جميع طوائف الشعب المصري (المرأة والشباب وطَلَبة الجامعة المصرية والمدارس والمسلمين والمسيحيين ) ، ولعب المُثقّفون فيها دوراً مهماً . ومن الأماكن المشهورة التي كانت مُلتقى الأفندية والبهوات والمُثقّفين مقهى ريش ( يُعرَف الآن بكافتيريا ريش ) فكان ولا يزال مَعلَماً تاريخياً هاماً. أين يقع مقهى ريش ؟ ما تاريخ هذا المقهى ؟كيف استخدم في ثورة 19 المصرية ؟ من أشهر من جلس عليه قبل وبعد ثورة 19 ؟
مقهى ريش (تأسّس عام 1908م) على أنقاض قصر محمّد علي في القاهرة كان أكبر تجمّع للمُثقّفين والسياسيين في المنطقة العربية. فيما شيّد المقهى رجل الأعمال النمساوي بيرنارد ستينبرج، وباعه عام 1914، إلى رجل الأعمال الفرنسي هنري بير، أحد الرعايا الفرنسيين، الذي أطلق على الكافيه إسم "ريش"، ليتشابه مع أشهر مقاهي باريس. وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، اشترى تاجر يوناني "ميشيل بوليدس"، المقهى من صاحبه، ووسّعه، وظلّ المقهى مِلكاً له حتى عام 1960، ثم مَلَكَه المصري مجدي ميخائيل،( توفّى عام 2015 والآن يملكه أبناؤه). وكان المقهى في ذلك الوقت ممتداً إلى ميدان سليمان باشا "طلعت حرب حالياً"، وبجانبه مسرح، غنّى عليه عمالقة الغناء منهم: "صالح عبد الحيّ، وزكي مراد"، وبجوار المقهى أنشئت صالة مصارعة. ومن المشاهير الذين جمعهم مقهى ريش أمثال: "نجيب محفوظ، يوسف إدريس، أمل دنقل، يحيى الطاهر عبدالله وصلاح جاهين" وغيرهم ممَن كانوا يحرصون على حضور ندوات نجيب محفوظ الأسبوعية التي كان يعقدها عصر يوم الجمعة منذ عام 1963 .
وعن دور المقهى في ثورة 1919وفق ما قاله المؤرِّخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه (تاريخ مصر القومي 1914- 1921) فإن ريش مُلتقى الأفندية من الطبقة الوسطى، كما عُرِف مقرّاً يجتمع فيه دُعاة الثورة والمُتحدّثون بشؤونها أو شؤون البلاد العامة. كما كان معقلاً لمختلف الطلائع السياسية المُتحرّرة من التعصّب الحزبي يتحاورون ويتسامرون ويتشاغبون ، لكنهم غالباً ماً يتّفقون على موقف واحد في مواجهه السياسات الإنكليزية وجمع الوحدة الوطنية ، ومعظم البيانات الوطنية كانت خارجة من هذا المكان . فقد كان مقهى ريش مُتنفّساً لكل الطبقات والأنواع من الناس على اختلاف نزعاتهم ، وقد ظلّ البوليس السياسي يقصد المكان ويملأه بجواسيسه ورجال المخابرات والصحفيين الأجانب ، كل يفتش عن مآربه الخاصة وقياس الأخبار ومواكبة النبَض المصري .
وذكر أيضاً المؤرّخ عبد الرحمن الرافعي في نفس المصدر السابق ، أنه في 10 مايو 1919 اقتحم البريطانيون محل غروبي المواجه لمقهى ريش، حيث كان يجتمع فيه الكثير من المشتركين في الحركة الوطنية وأخذوا يفتّشون الجالسين بحجّة العثور على الأسلحة والمنشورات ، وأصدرت السلطات الإنكليزية أمراً بتفريق الاجتماعات في المقاهي ، وصدر في هذا الأمر بيان إنكليزي نصّه ( محظور عقد أي اجتماع في المقاهي والمطاعم وكل مَن يشترك في هذه التجمّعات والتظاهرات يُعتبر مخلاً بالقانون العرفي ، إن قوات الاحتلال الإنكليزي في مصر تعتبر أن الاجتماع في مقهى ريش والمحلات المجاورة أكثر من خمسة أفراد مخالف للقانون العرفي) ، ما يجعل العقوبة على المقهى في المخالفة الأولى يُغلَق في الساعة السادسة أما في المُخالفة الثانية فيُغلق نهائياً .
وشاءت الأقدار أن يُكشَف المخبأ السرّي في مقهى ريش وذلك عقب شرخ في أحد جدران المقهى عقب زلزال 1992 حيث اكتشف سرداب سرّي وفيه منشورات وآلات طباعة يدوية أثناء عمليات الترميم ، ومما ذُكر في هذا الشأن أن صاحب المقهى قدّم تصريحاً لإقامة حفلات موسيقية كلاسيكية، ولكن الإنكليز رفضوا مُتحجّجين بأن الأوركسترا سوف تقلق السكان ، فما كان إلا أن جمع صاحب المقهى تواقيع السكان وتمّ الرفض، واضطر صاحب المقهى وضع السلطات أمام الأمر الواقع ، وتعالت أصوات الأوركسترا التي كانت تغطّي على أصوات آلات الطباعة السرّية التي كانت تطبع المنشورات الموجّهة ضد سياسات الإنكليز .
لا يزال المقهى موجوداً حتى الآن وفيه النفق المتّصل بالبدروم الذي كانت فيه المطبعة السرّية للمنشورات التي كان يطبعها ثوّار 1919م وزعيمهم سعد زغلول ، ويوجد فيه صالون نجيب محفوظ وصوَر للمشاهير من روّاد هذا المقهى ، وصورة كبيرة لكوكب الشرق أمّ كلثوم . والبار الذي كانت فيه مشروبات روحية وزجاجات الخمور القديمة . ويبقى مقهى ريش شاهِداً على أكثر من مائة عام من التاريخ المصري المعاصر وأيقونة من أيقونات ثورة 1919 المصرية ، تلك الثورة العامة التي عمّت ربوع بلدان القطر المصري آنذاك .