إعادة إعمار العراق والمرض الهولندي
الخبير الاقتصادي "اسماعيل حسين زادة" يتحدث عن إعادة الإعمار في العراق بأنه نموذج حي للامبريالية التوسعية بصيغة إنسانية كاذبة من شأنها تحطيم الاستقلال السياسي للبلدان المعرضة للغزو والاحتلال ومنعها من إعادة بناء اقتصادها المنهار تحت سنابك الاحتلال العسكري. وهو يفسر التلكؤ الأميركي في إعادة بناء جيش وطني عراقي قادر، على الأقل حالياً، من الحفاظ على الاستقرار الداخلي ومحاربة القوى الإرهابية المرتبطة بالوهابية الخليجية المسلحة.
في البداية يمكن القول بأن الحرب الشاملة على العراق ومنذ الحصار في التسعينات من القرن المنصرم، تتطلب إعادة التفكير في القوانين العامة للضخ المتبادل للقوة بين المركز الامبريالي والمراكز الطرفية من نمط العراق، أي قوة منفلتة طغيانية أميركية مع قوة صغيرة عربية غير قادرة على حماية نفسها لاسيما وهي تعاني من طغيان داخلي ساهم بدوره في تفتيت القوى الاجتماعية الحية مما أدى عملياً إلى خلق دائرة معقدة من الصراع بين أميركا في حقبة نهاية الحرب الباردة وخططها في إعادة احتلال العالم النفطي عن طريق الاقتصاد السياسي أو الحرب الشاملة عسكريا. من هنا فلا توجد قوة مادية متماسكة حالياً لها الاستطاعة في منع الاحتلال الأميركي من تدوير مصالحه العامة والخاصة، وأن المهمة المباشرة الآن للاحتلال الأميركي لها هدفان الأول تصفية "الحشد الشعبي" عسكرياً أو سياسياً عن طريق زجه في الصراع المباشر الداخلي أو التمسك بالسياسة التقليدية في عدم استكمال بناء قوة عسكرية عراقية متعافية على صعيدي الجيش والقوى الأمنية. إن مدى حركة القوى الداخلية محصور في حقن السياسة الأميركية ببعض التعديلات الجزئية دون إحداث تغييرات في الخطط المرسومة وهي السيطرة الكاملة سياسياً واقتصادياً.
إن إدارة الرئيس دونالد ترامب تعيد إنتاج نفس الصيغة السابقة للحروب الأميركية وهي أن الحروب في الخارج هي انعكاس سياسي لحروب الداخل، ولكنه يغطي ذلك بنوع من التلاعب بالألفاظ والمصطلحات مما يستدعي الانصات إلى الأصوات القديمة التي طالبت باحتلال العراق كنوع من الخلاص التاريخي لتصفية الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي العالمي. ولا شك بأنه توجد دائماً علاقة بين الاحتلال وإعادة الاعمار من خلال التركيز على الجوانب السياسية للمفهومين والتطبيقات العملية لهما. وهذا ما يجعل الادارة تردد دائماً بأنها لن تقع مرة ثانية في خطأ الانسحاب من العراق. من هنا لا بد أن نسترجع أيضاً سيرة السفير الأميركي السابق في أوكرانيا "كارلوس باسكوال" ودوره في إدارة مكتب شؤون إعادة الإعمار للعراق منذ عام 2003 في وزارة الخارجية الأميركية. وقد أقر هو بأن إعادة الإعمار في العراق والدول المشابهة هي عملياً إعادة بناء البلاد على ضوء الاحتياجات العالمية للدول الأساسية في الاقتصاد السياسي الدولي. إن المؤرخ الأميركي "ويليم بلوم" يطلق عليها تنمية التخلف بدل مكافحته والخروج من إطار العلاقة غير المتكافئة بين الاقتصاد العراقي المنهار والاقتصاد الأميركي الذي يعيش أزمة بنيوية عميقة.
الخبير الاقتصادي "اسماعيل حسين زادة" يتحدث عن إعادة الإعمار في العراق بأنه نموذج حي للامبريالية التوسعية بصيغة إنسانية كاذبة من شأنها تحطيم الاستقلال السياسي للبلدان المعرضة للغزو والاحتلال ومنعها من إعادة بناء اقتصادها المنهار تحت سنابك الاحتلال العسكري. وهو يفسر التلكؤ الأميركي في إعادة بناء جيش وطني عراقي قادر، على الأقل حالياً، من الحفاظ على الاستقرار الداخلي ومحاربة القوى الإرهابية المرتبطة بالوهابية الخليجية المسلحة. كما أنه يشرح أيضاً التبجح الأميركي العلني بعدم المساهمة في مشروع إعادة الإعمار بعد القضاء النسبي على داعش ومشتقاتها. ومما يجب الالتفات له أيضاً أن الاحتلال في العقد السابق من وجوده في الوطن كان قد استولى على مليارات العقود مع الحكومات العراقية المتعاقبة في الصعيد الأمني، ومنها شركات أميركية للأمن والدفاع عن الوجود الأميركي وحماية المؤسسات العسكرية والسياسية للاحتلال والجهات العراقية المتعاونة معه.
إن نتائج مؤتمر الكويت الأخير لإعادة الإعمار في العراق ليست مستغربة أبداً في إطار الموقف الأميركي والذي لخصه أحد الخبراء من بنغلادش "شالمالي غوتال": تعودنا على وجود استعمار شائع ومألوف، حالياً نواجه كولونيالية معقدة ومحنكة، يسمونها إعادة الإعمار. بل أن الباحثة الأميركية "نعومي كلين" تجزم في دراساتها حول حروب الكوارث الأميركية بأن عقود إعادة الإعمار في العراق كانت جاهزة قبل الغزو وتم تثبيتها بعد الاحتلال في برنامج سياسي اقتصادي متكامل. إن الهبات الكاذبة في مؤتمر الكويت هي جزء أساسي من المخطط الأميركي الخليجي والذي يجعل العراق مرتبطاً مع الاستثمارات الأجنبية غير المتكافئة في علاقاتها الإقتصادية مع السوق العالمية ومنظماتها الخاصة من نمط صندوق النقد الدولي. إن ما ينجز الآن حالة فذة من تخصص الاحتلال في نهب الثروات المعدنية والمتآزر مع الفساد العلني للنخب المتعاونة معه، وأخيراً تسكين الناس وتحويلهم إلى رعايا تنهش في أجسادهم قوى التسلط السياسي والأمني للاحتلال.
بيد أن ثلاثية الإعمار هذه هي التي تتطابق بصورة مدهشة مع التحليل الملموس لبنية الإقتصاد العراقي منذ خمسينيات القرن السابق والتي تجعل العراق أسير بناء "وحيد القرن" في كل المضامير الإقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، يعتمد على الريع النفطي فقط، وبالترافق مع الانهيار الشامل في الأصعدة الاقتصادية الأخرى ومنها الزراعة تحديداً. إن دراسة الخبير الاسترالي "وارنر ماكس كوردن" تؤكد أن الريع النفطي لا يدمر الزراعة فقط وإنما يعرقل إعادة تصنيع البلد المحتل ويظل في إطار الحلقة الجهنمية للتخلف الإقتصادي والارتباط العضوي مع السوق الامبريالية وعملتها الرئيسية الدولار الأميركي. هذه الحالة الهجينة سميت "بالمرض الهولندي" والذي تتلخص أعراضه: 1 - الإقتصاد الوطني للبلد مرتبط "بمورد طبيعي" واحد ومركزي. 2- شيوع هدر هذه الثروة وإساءة استعمالها في تطوير البنية الاقتصادية. 3 – فشل الحكومة في سياساتها الاقتصادية مع فقدان الأهداف الاستراتيجية للتنمية وتفشي الفساد. 4- العلاقة المركبة بين السلطة والثروة ونشوء الميليشيات المسلحة الإرهابية، ومنها الشركات الأمنية، الداعمة لبناء إقتصادها المحلي ونزوعها إلى الامتداد لتركيز سلطاتها الخاصة تحت شعارات اللامركزية أحياناً أو الأقاليم ذات الحكم الذاتي أو المستقلة بطريقة مموهة. 5 – ضعف المبادرات الإقتصادية والاجتماعية وذلك لسيادة الاستثمار الخارجي والعقود العابرة للحكومة من جانب وفشل ذلك لاحقاً والعودة إلى الاتكال عليها وهي ضعيفة ومهيضة الجناح وعاجزة عن الايفاء بوعودها أو مستلزمات وظائفها. 5 – الإزدواجية أو أكثر في السياسات العامة والخاصة للحكومة المركزية الهشة والخمول والوهن في إنتاج مشاريع مبدعة تمثل قطب الرحى في الاستقلال والحفاظ على مباديء السيادة الوطنية سواء في العلاقات الداخلية البينية أو في الصلات مع المجالين العربي والدولي. ناهيك عن خضوعها الذليل للقرارات التي يفرضها الاحتلال الأجنبي والمحور الاقليمي وتحت موافقة وإشراف الأمم المتحدة ومنظماتها.
المريض عراقي! والمرض هولندي! والنطاسي أميركي! أما الدواء فهو الأعشاب الطبية وما يتيسر من الفتاوي الخليجية!