مستقبل القدس بين مصير الأقدام السود والمملكة الصليبية
كي نرسم مصيراً مُحتملاً للقدس في غرّة المئوية الثانية للقضية الفلسطينية، لا بدّ من الإشارة إلى أن قرار الضمّ وضعَ مستقبل المدينة في وجهة الغائيّة حاسِمة لا جدال فيها ولا تردّد بعدها، إذ أطاح خيار السلطة الفلسطينية المبني على التعايُش بين المسلمين والمسيحيين واليهود في عاصمتين مُتجاورتين، هذا الخيار الذي يتناسب بحسب السيّد محمود عباس مع تاريخ المسلمين في القدس، فهم كانوا على الدوام يرجّحون تعايُش الأديان على تنازُعها وهذا ماثلٌ في الوثيقة العُمَرية ووثيقة صلاح الدين وفي السياق التاريخي للمدينة خلال العهود الإسلامية المختلفة.
شاركتُ الأسبوع الماضي في ندوة ٍحول مصير القدس انعقدت في الدار البيضاء في المغرب الأقصى، أشرف على تنظيمها بيت مال المدينة التابِع ل"لجنة القدس" الدولية التي يرأسها العاهِل المغربي منذ تأسيسها في مؤتمر القمّة الإسلامي في جدّة في الرُبع الأخير من القرن الماضي.
تمحورت ورقتي في الندوة، التي انعقدت على هامِش معرض الكتاب والنشر، حول مستقبل المدينة المُقدّسة بعد قرار ترامب ــــــــ نتنياهو بضمّها نهائياً إلى إسرائيل وبالتالي إخراجها من مفاوضات الدولتين مع السلطة الفلسطينية.
كي نرسم مصيراً مُحتملاً للقدس في غرّة المئوية الثانية للقضية الفلسطينية، لا بدّ من الإشارة إلى أن قرار الضمّ وضعَ مستقبل المدينة في وجهة الغائيّة حاسِمة لا جدال فيها ولا تردّد بعدها، إذ أطاح خيار السلطة الفلسطينية المبني على التعايُش بين المسلمين والمسيحيين واليهود في عاصمتين مُتجاورتين، هذا الخيار الذي يتناسب بحسب السيّد محمود عباس مع تاريخ المسلمين في القدس، فهم كانوا على الدوام يرجّحون تعايُش الأديان على تنازُعها وهذا ماثلٌ في الوثيقة العُمَرية ووثيقة صلاح الدين وفي السياق التاريخي للمدينة خلال العهود الإسلامية المختلفة.
وللمُقارنة كانت القدس الصليبية ذات وجه واحد ودين واحد، أقيمت على أنهار من دماء المؤمنين المسلمين واليهود وقسم من المسيحيين الشرقيين ، واليوم يريد نتنياهو ترامب أن تكون عاصمة أبدية للدولة الصهيونية على أن يتم تطهيرها من سكانها العرب بمختلف وسائل العصر والاحتلال ، تارةً عبر شراء عِقارات المسلمين والمسيحيين وتارةً أخرى عبر مُصادرتها واستيطانها وتدمير شروط حياة القلّة الباقية فيها لحمل الناس على الهجرة ، فتصبح المدينة يهودية صافية وبالتالي أشبه بالمملكة الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر والعقد الأخير من القرن الثالث عشر.
ما من شكّ في أن خيار القدس "عاصمة أبدية لليهود" بالقوّة المُسلّحة وبدعم ٍأميركي مُطلَق، غير قابل للحياة لأنه يحتاج ببساطة إلى تطهير فلسطين والعالم العربي والعالم الإسلامي من السكان. على غِرار التطهير العِرقي الذي أتاح الاستيطان اليانكي الشمالي الدائِم في القارّة الأميركية بعد قتل الملايين من سكانها الهنود الحُمر ومحوهم من الأرض والتاريخ.
الواضح أن المشروع الصهيوني للمدينة لا مستقبل له في فضاء فلسطيني وعربي وإسلامي يختلف ناسُه على كل شيء تقريباً، ويُجمِعون على القرآن والقدس، كما لاحظَ الكاتب اليهودي الفرنسي غي سورمان في كتابه "أبناء رفاعة" ، ولا مستقبل لها في التوازُن الديمغرافي مع الفلسطينيين حيث يُقارب عددهم داخل وخارج فلسطين عدد اليهود في العالم بأسره فما بالك بمئات ملايين العرب والمسلمين. ولا مستقبل لها أيضاً في ضوء ميزان القوى الآخذ في التوازُن تدريجاً مع محور المقاومة الذي يُطوِّق الكيان الصهيوني من كل الجهات ويكاد أن يحرمه من كل تفوّق عسكري حاسِم، ولا مستقبل لها حتى في صيغة التعايش السلمي القاهِر مع محيطها ، فهذا النوع من التعايُش ستكون حاله كحال جنوب أفريقيا حيث انتهى المستوطنون البيض إلى العيش في محميّات يضمن أمنها السود. ولعلّ محميّة القدس الصهيونية تكون في هذه الحال تحت رحمة المسلمين والمسيحيين الذين رفضوا ويرفضون وسيرفضون كل سلطة صهيونية على مدينتهم المُقدّسة وعلى عموم فلسطين.
في هذا السياق يمكن الحديث عن مستقبل مشروع القدس الصهيوني بعد قرار نتانياهو ترامب قياساً على سيناريوهات ثلاثة:
الأول هو أن يكون مصير هذا المشروع كمصير مملكة بيت المقدس الصليبية التي نشأت بالقوّة المُسلّحة واستقرّت بدعم ٍأوروبي وفاتيكاني، وزالت عندما ضعف دورها وفقدت القسم الأكبر من أهميتها ووظائفها، فانحسر التأييد الأوروبي عنها وانطوت صفحتها خلال شهور قليلة. ومن غير المُستبعَد أن تنتهي القدس الصهيونية إلى المصير نفسه بعد أن فقدت قسماً مهماً من أدوارها وبات كثيرون يحلمون بأن يحرّرها السيّد حسن نصرالله كما حرّر صلاح الدين مملكة بيت المقدس.
الثاني يتّصل بمستقبل يشبه مصير الأقدام السود في الجزائر، الذين هاجروا خلال ستة أشهر بعد توقيع اتفاقية إيفيان بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني الجزائرية. إذ جرّدتهم الاتفاقية من دورهم التاريخي كطلائع أمامية لحراسة مصالح بلادهم في أرض ٍمُحتلّة. لقد أراد الجنرال ديغول في حينه طيّ صفحة الاحتلال فانطوت معه صفحة مليون من الأقدام السود عاشوا 130 عاماً على أرض غيرهم، ولعلّ مصير هؤلاء لا يُفارِق مُخيّلة الصهاينة الذين كانوا يستعيدون هذه التجربة في كل الحروب العربية الإسرائيلية.
والثالث يتعلّق بالسردية الإسرائيلية للدور الصهيوني في المنطقة حيث يزعم بعض الساسة والمُثقّفين الصهاينة المُنافقين، أنهم يطمحون إلى أن يلعب احتلالهم دوراً حضارياً أشبه بدور روما القديمة في محيطها، فنراهم يتبجّحون بالحديث عن دولتهم بوصفها " الدولة الديمقراطية" الوحيدة في الشرق الأوسط، وبالتالي يريدون بناء "محيط ديمقراطي وحضاري" كذلك الذي بنته روما القديمة في محيطها.
يُبنى هذا الخطاب المُنافِق على تقدير ٍحضاري مُتفوّق للصهيونية وعلى تقدير مُتخلّف للعرب والمسلمين، ولعلّه مُستنسَخ حرفياً من كل الغزوات الغربية المعروفة لمنطقتنا ابتداء من حملة بونابرت على مصر وبلاد الشام عام 1799 وصولاً إلى الاحتلال الأميركي الأخير للعراق عام 2003 . يبقى تذكير الصهاينة بأن هذه المُقارَنة لا تضمن بقاء دولتهم في نهاية المطاف، ذلك أن روما القديمة دمّرها محيطها وهذا يعني أن مصير القدس الصهيونية إلى الزوال على خطين سواء عبر المثال الصليبي أو عبر مثال روما القديمة .
إن استشراف مصير القدس من خلال السيناريوهات الثلاثة المذكورة هو النتيجة المنطقية لقرار ترامب نتنياهو بنقل المدينة من طاولة المفاوضات إلى ساحة المعركة، ولعلّ ذلك يستدعي تغييراً جذرياً في السردية الفلسطينية والعربية حولها ، حيث ما زلنا حتى اليوم نتحدّث عن حقّنا في القدس استناداً إلى الآثار والعمران وكُتُب التاريخ ومفاتيح المنازل القديمة. ومازلنا نأمل في إقناع عالم غربي بحقنا وكأنه يجهل وهو الذي زرعَ الصهاينة في أرضنا عن سابق تصوّر وتصميم.
تحتاج هذه السردية حتى تصبح مُفيدة إلى محكمة مُنصِفة تمنحنا حقّنا في القدس وفي فلسطين استناداً إلى أدلّتنا القاطِعة ، وتحتاج إلى تحكيم دولي عادِل يُبارك حُججنا وينزع عن المدينة سطوة الصهاينة وهو أمر مُتعذَّر في الحالين . عندما يحتل أجنبي بيتك بالقوّة المُسلّحة ويفلح في تملّكه بوثيقة عقارية شرعية عليك أن تنسى الاحتجاج لدى الدوائر العقارية وأن تعمل وفق المُعادلة الشهيرة والمُجرَّبة : ما أُخِذَ بالقوّة لا يُستردّ بغير القوّة.