الاحتلال الأميركي للعراق والبقاء في دائرة الطباشير "الانتخابية"
إن الإعلام الانتخابي الراهِن قد تجاوز في التفاصيل الصراع الشفّاف المعروف تاريخياً في التنافُس بين صيغة "الأفضل" أو نموذج "المُفضّل"، وذهب البعض إلى التمسّك بأن تكون نتائج الانتخابات مع صيغة "بقاء الاحتلال" تحت شعار الحاجة المُلحّة إليه عسكرياً، وأن يكون العراق "الجديد" بعد الانتخابات "مُحايداً" بين المحاور المختلفة والمتصارِعة في المنطقة. وهذا يعني عملياً الحياد بين أهمية الاستقلال الوطني الناجِز وتصفية الاحتلال، وبين الاستمرار في التعاون مع الاحتلال بمسوّغات عديدة تصبّ كلها في مجرى مُكافحة محور المقاومة في المنطقة.
في ظل الاحتلال الغاشِم حالياً والإصرار الأميركي على البقاء وتأسيس قواعد ثابتة في مختلف أرجاء الوطن، تبدو الدعاية للانتخابات القادمة في شهر أيار هي السائدة في مناخ العملية السياسية الغريقة. وفي هذا السياق تبرز إلى الواجهة مسألة التحالفات الانتخابية. إن مناورات الكتل والأحزاب السياسية تستند دائماً إلى قاعدة دفع الخصم، إذ لا توجد تحالفات سليمة، إلى خلق الفراغات التي هو يريد أن يملأها بعد التصدّي له أو محاولة الحوار والتنسيق. وهذه تذكّرنا في النباهة الفطرية بأن الفرد الاجتماعي هو لُغز إنساني لا يمكن حلّه لكنه في المجموع يصبح حقيقة رياضية. ولكن حين هربت خيول الفشل من إسطبل المُحاصصة، كان لا بد من تغيير الطريق حتى لو أدّى ذلك إلى حفر سبيل خاص لتدوير الصورة المُتدنيّة في القاع الاجتماعي للصراع تحت سنابك الاحتلال.
والقوى السياسية معظمها عملياً تعيش تناقضاً بين الحال الاجتماعية التي تدّعي تمثيلها وبين الحال العامة للناس. لذلك فإن الخلافات بينهم ليست جذرية لأنهم جميعاً ينطلقون من شرعية الاحتلال، "الأمر الواقع "، ومن خلال عمليته السياسية في المُحاصصة الانتخابية وفي تشكيل الحكومة بعدها أو تثبيت المسؤوليات الأخرى في هرَم السلطة السياسية . إن السلطة الإصلاحية التكنوقراطية التي يُبشّر فيها البعض من خلال الدعاية الانتخابية، مثلاً، هي فعلياً ثنائية طغيان النصّ المُتشبّث به بيئياً، وبغضّ النظر عن الواقع الطوائفي المُحيّر. فضلاً عن أن الكرد انتخابياً هم أيضاً يتصرّفون وكأنهم "طائفة" وليس كما يزعمون قومية مظلومة تطالب بتحقيق مصيرها في الاستقلال عن العراق. إنها عملياً ديمقراطية الغنيمة التي يدعو الجميع إلى تقاسمها بين الجميع. وهذا ما يجعل الحصائل دائماً هشّة ولنتذكّر نتائج انتخابات عام 2014، وكيف هي دوهِمت بالحدث المزلزل حين اجتاحت "داعش" مناطق عراقية مفصلية، ومنها الموصل، واستولت عليها وأجبرت الجميع على تغيير نتائج الانتخابات ومن خلال سجالات هائلة ومفاوضات شاقة وتسويات متعدّدة شملت جميع ما يُسمى "بالمكوّنات" بل حتى داخل علاقاتها البينية.
وفي الضفاف المختلفة لهذه القوى نعثر على صوَر عديدة للتحالفات ولاسيما نماذج الفئات العاملة في الميادين الفكرية والسياسية والإعلامية، ومنها نموذج قديم لمُثقّف "الزوتشة"، وهو تقليد خاص للممارسة السياسية شعاره العام الاعتماد على الذات، وخاصة لدى الفئات التي تضرّرت عدّة مرات، الأولى من تسلّطات داعش والثانية من القضاء على داعش، والثالثة الآن من خلال محاولات ترميم الوضع الاجتماعي والسياسي الذي نجم عن مرحلة داعش ومواجهاتها المُتعدّدة. ويمكن القول إن العديد من هذه القوى يتصرّف عملياً وكأنه سلطات ظلّ تحت خيمة الحكومة القائمة، وهذا العديد يسعى عملياً بأن يكون هو السلطة الجديدة بعد حصاد الانتخابات القادمة.
هنا تتجنّب التيارات موضوعة الحفاظ على الوحدة السياسية والإدارية للبلد ويتركون ذلك لقوى الاحتلال وتحالفاته الخارجية ويبتعدون عن مهمّات النُخَب المُتميّزة في اللجوء إلى فكرة "الوطنية" من دون طغيان وإلغاء بدعة "الطغيان" من دون وطنية. وفي الحالين نعثر على الحصيلة وهي: الصوت هو صوت يعقوب ولكن اليد يد عيسى!
والمُلاحَظ بأن فعاليات تشكيل التحالفات لا تركّز على صيغة معينة للشكل والمحتوى المطلوب بعد إعلان نتائج الانتخابات. فشعار الأغلبية السياسية بات مرفوضاً في ظلّ التجاذبات اليومية وخاصة الخلاف العميق حول الأولوية في تثبيت بداية المرحلة الجديدة، هل هو الإصلاح الوظيفي ومكافحة الفساد المُستشري سياسياً ومالياً، أم هو إعادة إعمار البلاد بعد التهدّمات الكبيرة التي حدثت أثناء سيطرة داعش، أو من خلال مُحاربته والوصول المُظفّر إلى القضاء عليه مع الاهتمام بوجود خلايا علنية ونائِمة مازالت تعيث قتلاً وإرهاباً في البلاد. ناهيك أن الانتخابات تُجرى في سياق عدم حل المشكلة جذرياً مع "السنجق" الكردي، ومافتئت مُماطلات معيّنة تعرقل الحل من كافة الجهات ويتحمّل الطرف الكردي بعضها طبعاً. والشيء البارز هنا أن هذه القوى تُعيد إنتاج نفس الأجواء التي سادت الانتخابات السابقة، ولاسيما على صعيد التدخّلات الاحتلالية الجلفة وبعض المحاور الاقليمية، وتحديداً دول الخليج الطوائفية والتي تصبّ جهودها المحمومة في زيادة غليان الصراع الانتخابي السياسي. ويتجلّى ذلك من خلال الشائعات المُتداوَلة في البلاد والحديث المُتكرّر عن الصفقات السرّية التي تُنجَز، وكميات الضغوطات السياسية والمالية التي تعاني منها هذه القوى ومحاولات دفعها إلى تشكيل محاور انتخابية هدفها الأساس تثبيت الاحتلال عسكرياً وتطوير مادته السياسية والإعلامية.
إن الإعلام الانتخابي الراهِن قد تجاوز في التفاصيل الصراع الشفّاف المعروف تاريخياً في التنافُس بين صيغة "الأفضل" أو نموذج "المُفضّل"، وذهب البعض إلى التمسّك بأن تكون نتائج الانتخابات مع صيغة "بقاء الاحتلال" تحت شعار الحاجة المُلحّة إليه عسكرياً، وأن يكون العراق "الجديد" بعد الانتخابات "مُحايداً" بين المحاور المختلفة والمتصارِعة في المنطقة. وهذا يعني عملياً الحياد بين أهمية الاستقلال الوطني الناجِز وتصفية الاحتلال، وبين الاستمرار في التعاون مع الاحتلال بمسوّغات عديدة تصبّ كلها في مجرى مُكافحة محور المقاومة في المنطقة.
بيد أن أطراف القوائم الانتخابية يُطبقّون حالياً المنطق في "التاريخ المُستعمَل" بأن ميزة التقدّم المُلتَبس هي السعي دائماً لارتكاب الأخطاء، أما نبراس المحافظة على واقع الأمر فهو العمل الحثيث من أجل منع تصحيح هذه الأخطاء. وهم يرفضون الرجال المُستنيرين والذين يقاومون الأجنبي وهم دُعاة مرحلة اجتماعية تغلي بالآمال ويكون وعيهم قوياً باستقلالهم كجماعة سياسية مُتماسِكة. وفي غضون السِجال نرى هذه القوى تردّد بوجل: إننا لا نريد أن نجد أنفسنا داخل هذه الخريطة الجديدة إلا تحت ظروف الفشل الذريع المزمن، حيث لا يليق، أو لا نطمح بأن نكون خارجها الآن تحت ضغط شظف الحياة حيث لا يصح ولا جدوى. إن هذه القوى هي ليست سجينة الماضي فقط، وإنما هي سجينة أفكارها عن الماضي. ومن ثم هي تحاول مُعالجة الفكرة الانتخابية عن طريق الترويج للموقف الحيادي للعراق ولاسيما في القضايا المصيرية، ومنها مسألة فلسطين والعدوان في اليمن وسوريا واحتمالات الحرب القادمة على محور المقاومة وتحديداً سوريا وإيران وحزب الله المُجاهِد.
إن القفير الانتخابي الآن في حال من التشوش والاحتدام والجميع عملياً لهم المقدرة على الاستمرار في الحراك، ولكن لا يمتلكون الاستطاعة على تحقيق شيء ملموس سوى الدوران المستمر في دائرة الطباشير العراقية الاحتلالية، حيث الجميع يدّعي بأنه "أمّ الولد" والعراق وأهله يُذبحان يومياً لأن الاحتلال هو الخصم والقاضي في الوقت نفسه.