هل يقاوِم العراق ضغوطات الاحتلال الأميركي في " الحل الماليزي " ؟
يُسلّط المؤرّخ العراقي "عبد الرزاق الحسني" في سفره المهم "الثورة العراقية الكبرى" ضدّ الاحتلال البريطاني في عام 1920 ، على الأهداف السياسية المركزية للاحتلال ومن خلال استكمال برنامجه في السيطرة على المنطقة العربية ، هو أن يكون العراق المنصّة العضوية لبناء " الشرق الأوسط " الجديد الذي تم التحضير له في مؤتمر القاهرة عام 1921 . فما الذي حدث بعد ذلك !
قطعاً لا يمكن التوصيف المُقارن بالتعسّف الفكري، فالحقائق السياسية أصلد من أن يجري تبخيرها بالتعاليل الطارئة والاستنجاد بثقافة الأجنبي والرضوخ لعقدة الخواجة الحضارية والانصياع لأوليّاتها السياسية. فهناك مفهوم استعماري أنكلو ساكسوني للجغرافية السياسية للعراق ومحاولة عزله عن عُمقه العربي والإسلامي وخاصة إيران. إن هذه الجغرافية السياسية التابعة للاحتلال الأميركي تندرج في الإطار الاقليمي من أجل تحويل العراق إلى قوّة مُتناقضة مع محور المقاومة أو دفعها إلى ذلّ التبعية وهوان التحالف غير المتوازِن.
ويؤكّد هذا المؤرّخ بأن الجيوش البريطانية استمرّت ضمن سياق الحرب العالمية الأولى في احتلال سوريا ومنها فلسطين، ودخل الجنرال إدموند ألنبي إلى القدس في 11 كانون الأول 1917 وهو يعلن "أنه الآن فقط انتهت الحروب الصليبية" !! كان الجواب حاسماً من العراق المُحتل من قِبَل المرجع الأعلى الإمام محمّد تقي الحائري الشهير بالشيرازي حين أصدر بياناً في كربلاء والذي يقول بوضوح: "بأن احتلال ألنبي لفلسطين، آخر وأخطر الحروب الصليبية". بهذا يكون الإمام الشيرازي قد مهّد للفتوى التي أعلنها بقتال الاحتلال البريطاني – 17 حزيران 1920 والتي كان لها الدور الأساسي في اندلاع الثورة .
إن تاريخ العراق المُعاصِر ومنذ بداية القرن السابق يؤكّد على العلاقة المتينة بينه، اجتماعياً وسياسياً وبين الوطن العربي وفي المقدّمة القضية الفلسطينية. ومُبكراً برزت حركات ومنظمات مُعادية للنشاط الصهيوني ورفضت معظم القوى والأحزاب السياسية نشاطات الوكالة اليهودية في الثلاثينات من تلك الفترة، وكان لها موقف صائب وجريء في الدفاع عن عروبة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف. لكن القوى المتعاونة مع الاحتلال الأميركي قد حاولت أن تفرض استراتيجية جديدة تعزل العراق عن محيطه العربي، وخاصة سوريا، وإطاره الإسلامي المُطالِب برجوع فلسطين وعاصمتها القدس ولاسيما الجارة إيران.
وغنّي عن البيان أن إيران قد عانت بعد الثورة الإسلامية من ضغوطات هائلة من الغرب عموماً وأميركا خصوصاً من أجل تغيير سياستها المبدئية الثابتة في دعم الثورة الفلسطينية واسترجاع فلسطين وعاصمتها القدس الشريف. وكانت كل العلاقات المُتعدّدة بين إيران والغرب تستند في أساسها إلى محاولات عزلها عن محيطها العربي والإسلامي أيضاً. وفي كل المفاوضات والحوارات التي جرت بين إيران والغرب، وتحديداً أميركا، طرحت إغراءات جمّة من أجل تفكيك العلاقة بين إيران والقضية الفلسطينية ولم تنجح. وكان الإغراء الأخير، عام 2009، من قِبَل الولايات المتحدة حين انضمّت إلى المفاوضات النووية وحاولت أن تطرح مسائل عديدة سياسية أخرى فرفضها المفاوض الإيراني بشكل قاطع. ويقول الدبلوماسي الأميركي ومندوب أميركا السابق في الأمم المتحدة "توماس بيكيرينغ" في ندوة في جامعة بنسلفانيا حول قرار دونالد ترامب حول القدس في 5 كانون الأول 2017 ، إنه من خلال تجربته الخاصة في الحوار غير الرسمي مع دبلوماسيين وأكاديميين وعلماء من إيران لم ينجح أبداً في لوي عنق الحوار بخصوص العلاقة بين إيران وفلسطين.
وقد طرح على المحاورين والمفاوضين صيغة مُحايدة للموقف السياسي من القضية الفلسطينية تمت تسميتها "بالحل الماليزي" وهي تستند إلى التجربة السياسية لدولة ماليزيا وكيف أنه تم الاتفاق بينها وبين أميركا على ألا تعترف ماليزيا بالكيان الإسرائيلي وتمتنع عن أي شكل من العلاقة معها، وفي نفس الوقت لا تعلن العداء ولا تساعد الحركات الفلسطينية والعربية والإسلامية ضدها. إن فشل المحاولات الأميركية مع إيران في انتهاجها صيغة الحل الماليزي قد عرقل الحوار والتفاوض عقداً كاملاً وفي الحصيلة انتصر الموقف الإيراني . ويُعلّق توماس بيكيرينغ: "إن إعادة ترتيب الكراسي على سطح السفينة تيتانيك ما كان لينقذها من الغرق" .
إن الجهود التي بذلتها إدارة «بوش» في ولايتها الثانية، والتي أكملتها ولاية «أوباما» في استعادة «العراق» عربياً!! تتطابق بصورة مُدهشة مع السعي اليومي لتحويل دول الأزمة الخليجية جميعها في اتجاه تجريبي جديد: بناء "النموذج الماليزي" بالاستغراق اليومي لإعادة "الصيغة"، بشروط أسوأ، بين الخارج الخليجي بقيادة أميركا " دونالد ترامب " والداخل العربي العراقي وضمن مناخ المؤسّسات السياسية الضعيفة أو المُهترئة أو المفقودة من أجل تحقيق توازن للقوى جديد يعزّز ترميم العملية السياسية الفاشلة في العراق، وكذلك في هذه البلدان النامية خارج التاريخ من أجل تحقيق الأمن والسلم في الوقت الملائم!! أما القضية الفلسطينية فهي مسألة "قُطرية " خاصة لا يمكن حلها إلا بالتصميم الشامل الأميركي وبأن تتحوّل الدول في المنطقة إلى كيانات مشوّهة ومحمية لا يمكن أن تلجأ إلى الحروب! في حل مشاكلها التاريخية.
هل يمكن فَهْم القانون الأخير الذي أعلنته الحكومة، رقم 76 لشهر كانون الأول 2017، والذي ألغى القرار 202 الصادر في عام 2001 ، حول أوضاع العرب الفلسطينيين في العراق ضمن خطة معينة للتراجع عن العلاقة العضوية بين العراق وأهداف العرب في استعادة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، والوقوف الصلب أمام مخطّطات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة وبالتعاون مع المحور الوهّابي الخليجي المسلّح. وبالرغم من أن الخبير القانوني المعروف "طارق حرب" وهو مُقرّب جداً من الحكومة ، قد فنّد قانونياً مبرّرات الحكومة في طرحها القانون الجديد ، إلا أن المعنيين بالأمر تصرّفوا على طريقة إذن من طين وأخرى من عجين.
والسؤال المباشر كيف تستطيع نتائج الانتخابات القادمة في شهر أيار أن يكون لها دور في إحباط هذا القانون أم أن تغيير الكراسي على سطح السفينة لا يمكن إنقاذها!!