صلاح عيسى... الكاتب المؤرّخ المُشاغب الذي رحل
اعتقل صلاح عيسى لأول مرة بسبب آرائه السياسية عام 1966، ثم تكرر اعتقاله أو القبض عليه أو التحقيق معه أو محاكمته في عدة سنوات بين عامي 1968 و1981 كما فُصل من عمله الصحفي في العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، وبعدها اعترف المفكّرون والسياسيون على اختلاف توجّهاتهم الثقافية والسياسية على أن عيسى لا ينحاز سوى لوطنه الأصغر مصر ولوطنه الأكبر في عالمه العربي الواسع الفسيح وكل عدائه كان متجهاً دائماً نحو عدوّين هما الصهيونية والإمبريالية.
توفى الكاتب المصري المعروف صلاح عيسى يوم الإثنين 25 كانون الأول/ ديسمبر 2017 عن عمر يناهز 78 من الأعوام، وقد اشتهر بكتابة مقالاته تحت عنوان "مشاغبات"، وهي فعلاً كانت مشاغبات وطنية مصرية وعروبية إسلامية، وصلاح عيسى معروف بميوله اليسارية، ولكنه في العموم كان كاتباً وصحافياً وأديباً مؤرّخاً منفتحاً على كل التيارات الفكرية الليبرالية والإسلامية، وقد ظهر هذا واضحاً عندما كان يرأس تحرير جريدة "القاهرة" الأسبوعية، التي تصدرها وزارة الثقافة المصرية، فقد فتح الباب لكل الاتجاهات لعرض أفكارها، كتب فيها يساريون وليبراليون وكتّاب من الإسلاميين من جماعات الإخوان المسلمين ومن الشيوعيين ومن كتّاب الشيعة أيضاً، وكانت فترة رئاسته لتلك الجريدة ومضة من قبسات الفكر المستنير المفقود.
وكان يُصدر كتاباً هدية مع جريدة "القاهرة" كنوع من نشر الثقافة، وكلها كتب تنويرية لكتّاب معاصرين مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد حسن الزيات ورسائل الشيخ محمّد عبده، وغيرهم، مع العلم أن صلاح عيسى أسّس وشارك في تأسيس وإدارة تحرير عدد من الصحف والمجلات من بينها "الكتاب" و"الثقافة الوطنية" و"الأهالي" و"اليسار" و"الصحفيون"، ثم جريدة "القاهرة" آخر محطاته في رئاسة التحرير، تفرّغ بعدها لكتابة مشاغباته في كثير من الجرائد المصرية والعربية، حتى توفاه الله.
ولكن صلاح عيسى لم يكن صحافياً فقط، بل هو كاتب وأديب ومفكّر ومؤرّخ، ألّف العديد من الكتب المهمة، معظمها يدور في الفلك المصري العربي، مثل كتاب "الثورة العرابية"، الذي عالج كمؤرّخ ثورة الزعيم أحمد عرابي، وأنصفه تاريخياً ووطنياً، مثلما أنصفته ثورة تموز/يوليو 1952، بعد أن قام الاستعمار البريطاني وأسرة محمّد علي بتشويه سيرة أحمد عرابي والثورة العرابية، كما ألّف كتاب "هوامش المقريزي"، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات نشرها في جريدة الجمهورية في الفترة بين عامي 1971 و1975، واستعار خلالها إسم المؤرّخ العربي الشهير المقريزي، ليوقّع المقالات به. ويضم الكتاب عدداً من القصص التاريخية تغطي فترة التوهّج الثوري الذي قاد لثورة 1919 بزعامة سعد زغلول، وحاول صلاح عيسى أن يكشف بعض ما كان يجرى من كواليس السياسة والصحافة آنذاك.
ومن أهم كتبه "رجال مرج دابق" وهو كتاب تاريخي بأسلوب صحفي مثل المؤرّخ المملوكي "إبن إياس"، صاحب كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وأشار عيسى إلى أن إبن إياس كان صحافياً في عصره المملوكي، ورجال مرج دابق كما كتب صلاح عيسى هم الخونة من رجال مماليك السلطان "قنصوة الغوري" الذين باعوه للسلطان العثماني "سليم الأول"، فكانت هزيمة المصريين والشوام، ثم رجال السلطان المملوكي الأخير "طومان باي"، الذي شنقه "سليم الأول"، تحت "باب زويلة" في القاهرة، الذي مازال موجوداً وشاهداً على الاستبداد والخيانة، ثم انتهى الأمر باحتلال عثماني مظلم دامٍ للمنطقة العربية حوالى أربعة قرون، وصلاح عيسى عندما ألّف كتاب "رجال مرج دابق"، كانت عيناه تنظران للواقع العربي المأساوي الذي يعيشه كشاهد عليه، بحيث يتأمّل القارئ أحداث الماضي بعين الحاضر.
ومن ضمن كتاباته شبه التاريخية كتاب "رجال ريا وسكينة.. سيرة سياسية واجتماعية"، والسيّدتان "ريا وسكينة"، وهما شقيقتان كوّنتا تشكيلاً عصابياً مع رجال آخرين، قتلوا سبعة عشرة سيّدة طوال عام كامل، من دون أن يتوصل لهم أحد، وذلك في مدينة الإسكندرية أوائل القرن العشرين، وتم إعدامهما مع شركائهما من الرجال، وكتب صلاح عيسى عن عصرهما، أي العصر الملكي والاحتلال البريطاني، خاصة في مدينة الإسكندرية، التي تُعتبر نموذجاً للتآخي بين الأديان والأعراق، من خلال الحديث "ريا وسكينة"، ولذلك يمكن ضمه لكتب عيسى التاريخية.
أما كتاباته السياسية، فتدخل ضمن النشاط اليساري/المصري/العربي الخاص به في السبعينات من القرن الماضي، مثل موسوعة "مثقفون وعسكر"، عندما كان معارضاً للسلطة السياسية للرئيس أنور السادات، وعندها كتب بأسماء مُستعارة حيناً، أو خارج مصر في أكثر الأحيان، خاصة في مجلات بيروت في لبنان، ولكنه رغم ناصريّته فقد عرف المعتقلات والسجون في العصر الناصري، كما في العصر الساداتي، فقد اعتقل لأول مرة بسبب آرائه السياسية عام 1966، ثم تكرر اعتقاله أو القبض عليه أو التحقيق معه أو محاكمته في عدة سنوات بين عامي 1968 و1981 كما فُصل من عمله الصحفي في العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، وبعدها اعترف المفكّرون والسياسيون على اختلاف توجّهاتهم الثقافية والسياسية، على أن صلاح عيسى لا ينحاز سوى لوطنه الأصغر مصر، ولوطنه الأكبر في عالمه العربي الواسع الفسيح، وكل عدائه كان متجهاً دائماً نحو عدوّين هما الصهيونية والإمبريالية.
على أن أهم كتبه على الإطلاق كما نرى، هو كتابه الأشهر "حكايات من دفتر الوطن"، وهو عبارة عن حكايات مصرية مشهورة مكتوبة في المؤلفات التاريخية أو أرشيف الجرائد والمجلات، من ضمن هذه الحكايات "الموت على تل العقارب" و"مقتلة الأحد الدامي" و"جلاد دنشواي" و"رصاصات الأمير سيف الدين"، وقد كتبها بأسلوب ساخر دامٍ، كأنه يكتب بمداد من دمه، خاصة في ما عُرف بمذبحة دنشواي تحت ظل الاحتلال البريطاني لمصر عندما شُنق خمسة شباب من فلاحي قرية دنشواي بمحافظة المنوفية بدلتا النيل لأنهم طاردوا بعض ضباط الإنكليز الذين أحرقوا القمح في القرية وكان من نتيجة المذبحة طرد المعتمد البريطاني المشهور بدمويته "اللورد كرومر" وتكثيف الحركة الوطنية المصرية تحت قيادة الزعيم "مصطفى كامل" ثم "محمّد فريد" وكانت النتيجة الثورة الشعبية الكبرى عام 1919، وقد كتب صلاح عيسى في مقدمة هذا الكتاب كلمات شاعرية عن مصر، يقول فيها "إلى مصر قضائي الذي أعانقه وقدري الذي أحتضنه وأين يهرب المريد وشوقه قضاؤه وقلبه قدره".
أما الأكثر أهمية هو حسّه الصحفي، فله عشرات الآلاف من المقالات المشاغبة، وقد ظل صحافياً برؤاه التاريخية تعلّم منه كثيرون، اتفق واختلف معه كثيرون أيضاً، ولكن نال احترام الجميع وظل حتى آخر أيامه منحازاً للقضايا العربية والإسلامية في العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا وغيرها من البلاد التي تعيش مآسي مخططات الاستعمار والصهيونية، رحم الله صلاح عيسى وعوّضنا خيراً عنه.