نيوم وطريق موسى
ليست مدينة نيوم التي أُعلن عنها لتكون مدينة استثمارية كبرى، فكرة وحيدة من نوعها أو استثنائية، بل هي العنوان الفاقِع لشرق جديد، قيل الكثير عنه وفيه، لكنه أولاً وأخيراً موضع اهتمام تل أبيب ومجالها الحيوي
ثمة ما يُقال عن مشاريع ومدن أخرى تعلن تباعاً بهذا الحجم أو ذاك، سواء كعواصم جديدة، كما في الأردن، أو كمدن ومراكز اقتصادية تنهل من كتاب شمعون بيريز، الشرق الأوسط الجديد، وثمة ما يُقال عن بعث الحياة في فكرة مدينة سدوم وعمورة على البحر الميت، وعن طرق أخرى على ما يُسمّى طريق إبراهيم بين الفرات وحرّان وما يُسمّى طريق موسى بين سيناء وخليج العقبة.
ومن المؤكّد، ابتداء، إننا لسنا إزاء بابل أو خيال ساحر مسكون بتقدم الإنسان وحريته كما في المدينة السعيدة في جمهورية إفلاطون أو يوتوبيا توماس مور، ومن عصرنا ما ابتدعه خيال الروائي بورخيس في كتابه (تيلون).
فما هو منتظر من المدن المنشودة، هو استبدال الدولة المشرقية بأشكال من المدن والمشاريع الكوزوموبوليتية الرأسمالية المُتناثرة حول (تل أبيب)، كما المراكز القديمة على طريق شركة الهند الشرقية.
لا دول، ولا مواطنة، ولا أيديولوجيا من أي نوع، جغرافيا وسكان ورجال أعمال ومطابخ لصنّاع ولاعبي البورصة والبيوتات المالية من مانهاتن إلى البيلدربيرغ، حيث تتواصل سلالات روتشيلد ومردوخ في سوروس ورجاله وتلامذته.
ومن المدهش هنا، أن عصر التحوّل هذا من الدولة إلى البورصة والمدينة (العالمية) سبقه عصر مماثل، ترافق مع التحوّل من الإمبراطورية الجرمانية إلى دولة وستفاليا التي دشنّت عصر الثورة الصناعية البرجوازية ودولها القومية، وكانت مدن مثل جنوة والبندقية أبرز عناوينه، حيث شكّلت أولى الأندية الماسونية أيضاً ومن قلبها نشأت الدول المذكورة.
وليس بلا معنى أن الماسونية الجديدة التي تحمي نفسها بالتشكيك بوجودها أصلاً، موجودة حقاً في بيوتات الرأسمالية، كما في كواليس ما يُعرف بالإشتراكية الدولية، المناهضة للشيوعية، وهي الإشتراكية التي باتت تعرف أيضاً بإشتراكية محفل الشرق الأعظم، أكبر المحافل الماسونية قاطبة.
ولا بأس هنا من استعادة التاريخ قليلاً للتمعّن كثيراً أو قليلاً في مقاربة المدن الماسونية الجديدة المنشودة، مع الأفكار الأولى بشأنها قبل قرنين ويزيد، ومن قبل ماسونيين كبار كانوا في خدمة البرجوازية الأوروبية الناشئة..
في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر والعقود الأولى، من القرن التاسع عشر، ترافقت مع بدايات الاستعمار الأوروبي للشرق والمنافسة بين فرنسا وبريطانيا، ترافقت مع موجتين: موجة الاستشراق البريطاني السياسي المدّعم بالآثاريين، ورجال الاستخبارات، وموجة الاستشراق الفرنسي المعرفي، المدعوم بآثاريين ورجال المخابرات أيضاً..
ومن غرائب الموجة الفرنسية الثانية، سيطرة فلاسفة الاشتراكية الخيالية عليها، وكان من أشهرهم سان سيمون (مارسمعون) (1760-1825) الذي اهتم بالسيطرة على مصر والبحر الأحمر والساحل اللبناني والجزائري، ومثله شارل فورييه (1772-1837).
وفيما فشل سيمون بإقناع محمّد علي بشقّ قناة السويس، نجح تلامذته ومنهم قنصل فرنسا في مصر، دي ليسبس، في إقناع الخديوي سعيد، كما دعا فورييه إلى شقّ قناة تربط البحر الأحمر بالميت وعوّل الإثنان على إقامة مدن (عالمية) في الحالين.
ولم تمنعهما (الاشتراكية الخيالية المفعمة بروح مسيحية أخلاقية) من تبرير ذلك لمواجهة الإنكليز الذين يسيطرون مع الأتراك على الطرق الآسيوية الشمالية وبحري قزوين والأسود، بل أن فيلسوفاً (إنسانياً) سابقاً لهما، وهو الفيلسوف الألماني، لايبنتز كان قد نصح الملك الفرنسي، لويس الرابع عشر، بالسيطرة على مصر.
وبالمحصّلة، فما يبدو اليوم بين ثلاثة عصور، عصر موسى الافتراضي، وعصر ماسونية سان سيمون، وكتاب بيريز (عضو الاشتراكية الدولية) الشرق الأوسط الجديد، هو ربط الجغرافيا في حوض البحر الأحمر – وادي عربة - سينا – السويس، بتاريخ ماسوني كوزموبوليتي للمدن في هذا الحوض، وبحيث تكون بديلاً للدولة العربية ومجالاً حيوياً للمستعمر في تبدّياته المتلاحقة بين المتروبولات الرأسمالية وبين امتدادها الصهيوني.
هكذا المدن الاستثمارية في الحوض المذكور وما تبقّى من دول عربية على طريقي إبراهيم وموسى الافتراضيين، محطات متناثرة لمدينة المدن الماسونية (إسرائيل) وهي تلعن بابل.