يقين النصر والقلق على لبنان
غرقت الشعوب العربية بالكثير من الدماء والأحزان والآلام، وربما كان الشعب اللبناني أكثر من عانى من مشاق الحياة وقسوتها. ربما أنستنا آلام الفلسطينيين والسوريين والعراقيين ما ألمّ بلبنان عبر السنوات الطوال، لكن مجريات الأحداث الأخيرة تعيد إلينا ذاكرة مُرّة ومؤلمة ابتداء من صراعات الخمسينات ومروراً بالحرب الأهلية التي طال أمدها، وحروب الكيان الصهيوني المتكرّرة. سقط في لبنان عشرات آلاف الشهداء والجرحى ودُمّرت بيوت ومزارع ومعامل ومصانع، وما زال شعب لبنان في عين العاصفة.
السياسييون في لبنان لم يطوّروا بعد إرادة لصوغ أبعاد استراتيجية على المستويين الداخلي والخارجي لحماية الشعب والوطن. السياسيون ما زالوا في أغلبهم طائفيين، وربما يجدون في الطائفة مصدر قيادتهم ومبرّر وجودهم في الحلبة السياسية. على الرغم من كل الذكاء الذي يُميّز شعب لبنان، وعلى الرغم من الجَلَد والصبر اللذين يتميّز بهما، والقدرة على العمل والإنتاج، إلا أن الذكاء السياسي يغيب في دواوين القيادات ومصالحهم.
شعب لبنان مُستهدَف لأنه شعب عربي يملك من القوة ما يكفي للدفاع وصد الاعتداءات بغضّ النظر عن مصدرها، والشعوب العربية وفق قواميس الدول الغربية العسكرية، محظور عليها امتلاك القوة، والعرب بالنسبة للغرب طيّبون ومحترمون ومعتدلون ما داموا ضعفاء ومن السهل امتطائهم. فكيف بهذا الشعب أن يطوّر قدراته العسكرية ويملك نفسه وقراره ورؤيته؟ هذا الشعب هو الذي هزم الكيان الصهيوني مرتين حتى بات هذا الكيان يعدّ ألف مرة قبل أن ينزلق في حرب ضد لبنان. وبسبب الأبعاد الطائفية الفئوية العصبوية، هناك في لبنان من لا تعجبه الانتصارات ويبحث عن الهزائم.
المؤامرات ضد شعب لبنان لا تتوقّف، وهي مستمرة منذ عام 1946، ولا يبدو أنها ستتوقّف. لقد فتحت الطائفية أبواباً للتدخّلات الخارجية، وأصبح الوطن اللبناني مسرحاً للتنافس بين دول استعمارية وغير استعمارية، وعجّ الوطن بغزو استخباري متعدّد متشعّب تابع للعديد من الدول. عاثت أجهزة الأمن الخارجية بأرض لبنان الفساد، واستعملت الوطن مسرحاً للحروب بالوكالة ومركزاً لبثّ الفتن والفساد في المنطقة العربية برمّتها.
الآن يواجه لبنان أزمة يمكن أن تكون حادّة وتشعل نيران الصراعات الداخلية. استقالة الحريري من خارج بلاده ليست بالأمر السهل، ولا يمكن أن تكون عنصر توحيد. ساد استقرار مقبول في لبنان بعد تنصيب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية والسيّد الحريري رئيساً للوزراء. لقد أثلج ذلك صدور العديد من العرب الذين يغارون على لبنان ويتطلّعون إلى أمجاد الشعب. ظهر الحريري في مقابلة تلفزيونية، لكن شرحه لم يكن مقنعاً بأن استقالته كانت طوعية بإرادة حرّة. لم يقنع الحريري مشاهده بأنه على دراية جيّدة بعِلم النفس والتأثيرات النفسية التي يمكن أن يصنعها الخطاب السياسي أو الجماهيري.
لا يقتصر ضرر الطائفية في لبنان على شعب لبنان، وإنما يمتد على اتّساع البلدان العربية والإسلامية التي تشهد احتكاكات طائفية، وفي هذا ما يؤثّر سلباً على الأمن والسلم الأهلي في هذه البلدان. أي أن معاناة شعب لبنان من الطائفية أكبر من مساحة لبنان وستطال العديد من الشعوب العربية والإسلامية. وفيه ما يحمل تحريضاً على حزب الله ورغبة بعض الدول العربية وغير العربية في التخلّص من الحزب وسحب سلاحه. وفي حديث السيّد حسن نصر الله حول تحريض الكيان الصهيوني لشنّ حرب على لبنان ما يؤكّد هذا المنحى. أيّ حرب على لبنان سيكون هدفها الأول القضاء على حزب الله.
لبنان دولة مستهدفة لأنه هو الذي يقود العرب الآن في مواجهة الاستعمار والاحتلال. لبنان هو الأقوى والأقدر والأكثر تنظيماً وانتماء والتزاماً، والحرص ضروري من المؤامرات الخارجية. وكل عدوان الآن على لبنان قد يطال كل اللبنانيين وليس الجنوب فقط، وستتركّز ضربات قوية ضد المدنيين، وذلك من أجل تأليب الشعب اللبناني بالمزيد ضدّ حزب الله الذي يشكّل القوة الأولى في الساحة العربية. ومهما يكن التحريض، حزب الله لن يُهزَم، والأفضل أن يتوحّد اللبنانيون تحت راية النصر.
حرْص بعض الساسة اللبنانيين على السيادة لا يُقنع المطلّعين على أوضاع لبنان. العديد من قادة لبنان فتحوا أبواب الدولة (للممولين) وأصحاب القوة والبطش. من الصعب أن نجد في تاريخ هذه القيادات ما يؤكّد حرصهم على السيادة أو حساسيتهم المرهفة تجاهها. وأكبر دليل على ذلك أن الاحتلال الصهيوني بقي جاثماً على أرض لبنان سنوات طويلة وما زال من دون أن يحرّكوا ساكناً في مواجهته.