العراق المُحتل، ماذا تقول لنا كركوك عن الصراع الآن؟
لقد دفنت "عملية فرض الأمن" كل أحلام "برزاني" في الاستحواذ على كركوك حيث كان في الحد الأدنى يتطلّع إلى تقاسم كركوك ونفطها مع حكومة بغداد، ويتبع تعاليم مؤسّسة "تشاتام هاوس" البريطانية الاستعمارية حين اقترحت منذ آذار/مارس 2008، وبناء على توصيات من بعض الأوساط "الليبرالية " العراقية المُتخادِمة مع الاحتلال، في مشروع بناء دولة "عربية – كردية كونفدرالية" تكون عاصمتها المشتركة كركوك. والآن يُعاد طرح هذا المشروع ولكن بملابس جديدة.
في نيسان من العام 2005 كتب الصحافي المعروف أرنود دي بورشغريف، (توفى عام 2015)، أن كل العناصر المهمة في إدارة الاحتلال الأميركي في العراق تتخوّف من اندلاع حرب أهلية ضروس بين الكرد وما يُسمّى بالتحالف "الشيعي" الحاكم بسبب كركوك وأهميتها النفطية الاستراتيجية، ولأنها تشكّل هدفاً خاصاً للقيادة البرزانية في مشروعها الانفصالي وهو بنظر التيارات المُحافِظة الجديدة قلب مشروع الشرق الأوسط العتيد.
لكن الكاتب لم يُفصح عن تفاصيل الأغراض وأدواتها. وكانت هذه هي مهمة الناشط الفرنسي جيل مونير، حيث فضح تفاصيل احتلال كركوك في نيسان 2003 في عملية خاصة وبالتنسيق مع كتيبة إسرائيلية للمغاوير وأطلق عليها إسم "شيخينا" وهو يعني بالعبرية "مكان الله"، وكانت شركة هيريتيج النفطية الكندية، وصاحبها مايكل غولبانكيان حفيد غولبانكيان الشهير بالمُغامر النفطي 5%، في قلب المناورات هذه من أجل العمل على إرجاع خط كركوك – حيفا وتنظيف أنابيبه وصيانتها وحراستها. وقد نبّه الكاتب إلى أن اتفاقية "أوسلو" المعقودة في واشنطن عام 1993، تتضمّن بنداً يدعو الطرفين إلى السعي الجاد لإعادة العمل في الخط المذكور.
في منتصف الشهر المنصرم، تشرين الأول 2017 ، أطلق المجمّع السياسي – العسكري العراقي عملية "فرض الأمن"، وكانت بدايتها قد سبقتها خطة "رصاصة التعقّب" السياسية وهي المحاولة الأخيرة لردْع برزاني عن الاستفتاء، مع إعطاء حُقنة سياسية مقوّية للعلاقات الخاصة مع خط طالباني لتأمين فتح الطريق أمام السيطرة الكاملة.
هناك تطابق مدهش بين الهدف والأداة، لقد خاض رئيس الوزراء حيدر العبادي مهمة التصدّي للتمدّد البرزاني، السياسي والأرضي أيضاً، لتحقيق عدّة نقاط سويّة، ولتشكيل وضع يؤهّله لعبور "جسر التنهدات"، وهو الاستحقاق الانتخابي القادم. فهو من جانب يتحاشى خوض الصراع داخل حزبه وخارجه، وهو لا يريد في مُنافساته مع أقطاب ما يُدعى بالتشيّع السياسي الوصول إلى حدود تصدّع هذه الجبهة ويتحمّل مسؤولية تفكّكها، وكذلك هو بعد معارك الأنبار والموصل والحويجة ليس براغب فتح جبهة ساخنة مع بيئة هذه المناطق وخصوصاً هي ميدان سباق عاصف بين أقطابها وعلاقاتهم المتنوّعة مع بلدان الوهّابية السياسية والمسلّحة. لذلك فإن وضعه في مُجابهة الكردية السياسية هو نموذجي إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنه كان يتحمّل بعض المسؤولية في التعنّت البرزاني وأطماعه النفطية. والنقطة الجوهرية هنا أن التصدّي للكرد، سيكون ضمن ما اتّفق عليه من الأخطاء "المسموح بها"! خاصة وأنهم باتوا خارج الإطار الوطني وهذا ما أكّدته الحوادث اليومية للصراع الجاري.
لقد تصرّف الخط المقاوم من طهران إلى دمشق – بيروت، وعبر بغداد، بدهاء منذ أزمة الاستفتاء وضمن لعبة "سوقية" صارِمة تستند إلى معادلة رابضة على أرض الصراع المركّب، وهي تتضمّن من جهة التحاشي بدقّة لعدم منح أوراق مجانية للاحتلال الأميركي في تصعيد الحرب في اتجاهات خاصة لصالحه، وكذلك تلقينه دروساً "تعبوية" في إنجاز انتصارات سريعة وحاسمة في مفاصل المعارك المتحرّكة. إن محور المقاومة يدرك جيداً أن الاحتلال يعيش حالة: البقاء في العراق من دون السيطرة على النفط لا معنى له، وأن السيطرة من دون البقاء غير مضمونة – "ريان كروكر" السفير الأميركي السابق في العراق وهو يشرح برنامجه الجديد "مشروع مستقبل العراق"، أيار/مايو 2017 ، حيث يربط بين الحفاظ على النظام الفيدرالي في العراق وضرورة سنّ قانون للنفط في البلاد.
بيد أن الاحتلال لن يتراجع حالياً وإنما يحاول المراوغة بين قطبين، الأول الحفاظ على العملية السياسية ضمن جدوله، والثاني التمسّك بأهمية السنجق البرزاني بكونه حجر الرُحى في وجوده العسكري في العراق. معتقداً أن الأمور القادمة يمكن أن تمنحه الفُرَص لقضم إنجازات محور المقاومة وذلك عن طريق المزيد من ضغوطاته السياسية لتصفية الاتفاق العسكري العراقي – الايراني. إن هدفه المباشر الآن مدوّن في التصريحات الأخيرة، جريدة الأهرام القاهرية - الأحد 29 تشرين الأول/أكتوبر 2017، للجنرال الأميركي بول فانك، قائد قوات التحالف الأميركي ضد داعش، حين أكّد ضرورة بقاء قوات أميركية في سوريا والعراق بعد هزيمة "داعش". وأوضح أن هذه الخطوة، تهدف إلى التصدّي لفلول التنظيم، وملاحقة الميليشيات "الإيرانية"!! والحد من نفوذها فى المنطقة.
والسؤال المركزي الآن، هل كركوك غرفة إنعاش عراقية لبدء تحوّل "الحكومة" الاتحادية إلى "دولة" مركزية تدير عراقاً لا مركزياً؟ مثل عبد الحميد الثاني، قبل أن تسقط عصاه وتتفكّك دولته. وهل يمكن الحديث أن معركة كركوك هي الفاصِل بين حروب الوكالة الأميركية وبين الحروب القادمة التي تبشّر بها الإدارة الأميركية الحالية. ذلك لأن المسألة الآن ليست عراقيّة المدينة وجذورها التاريخية أو وضعها الجغرافي الداخلي أو حتى المحتوى الديموغرافي للسكان في المدينة أو المحافظة. لقد طُوِيَت هذه الصفحة وبدأت الآن قضية الارتباط العضوي بين المدينة ونفطها الاستراتيجي وبين الضغوطات الأميركية – الإسرائيلية التي طفت على سطح الإعلام الغربي مؤخراً، وفيها تم التركيز بألا تكون كركوك "سرّة" الميدان الاستراتيجي للتحالف السياسي – العسكري بين العراق وسوريا وحزب الله وإيران. هكذا نجد سُحُبَ جولة جديدة من الصراع تتجمّع فوق المنطقة، لكن مكمن الخطر أن أية حرب جديدة لن تكون بالوكالة، بعد انتهاء داعش، والاحتراق السريع للورقة الكردية. وأن النتائج العنقودية للزراعة الأميركية لداعش في المنطقة بدأت تثمر في طريق مخالف لكل التوقّعات الامبريالية في العراق وسوريا.
لقد دفنت "عملية فرض الأمن" كل أحلام "برزاني" في الاستحواذ على كركوك حيث كان في الحد الأدنى يتطلّع إلى تقاسم كركوك ونفطها مع حكومة بغداد، ويتبع تعاليم مؤسّسة "تشاتام هاوس" البريطانية الاستعمارية حين اقترحت منذ آذار/مارس 2008، وبناء على توصيات من بعض الأوساط "الليبرالية " العراقية المُتخادِمة مع الاحتلال، في مشروع بناء دولة "عربية – كردية كونفدرالية" تكون عاصمتها المشتركة كركوك. والآن يُعاد طرح هذا المشروع ولكن بملابس جديدة.
وأخيراً هل ستبدأ مؤامرات الاحتلال بالانتقام من العراق قيد الاستقلال ويعمل المحور الخليجي على زرع الشقاق مرة أخرى في صفوف القوى الوطنية داخل الحكومة وخارجها، ويطلق العنان لطغيان "قطع الليل المظلمة" أن تنفّس غضبه العارِم بعد خسارة القوات الأميركية معارك الحدود العراقية – السورية، حيث سيصبح العراق " رمّانة" الميزان في القوى المُنخرِطة في الصراع في المنطقة.