بلفور يُملّك فلسطين لليهود
على مدى سنوات طويلة استمتع الاستعمار والصهاينة في التلاعب بالعرب كيفما شاؤوا، وهذا لم يعد ممكناَ الآن. تمر المنطقة العربية الإسلامية الآن بتحولات استرتيجية هامة على مختلف المستويات بقيادة العراق وسوريا وإيران ومن يتحالف معها، وبالتأكيد سيجد تصريح بلفور ومن أصدره أنفسهم في ضائقة شديدة. شهر العسل الصهيوني يشرف على نهايته.
تاريخ 2 تشرين ثاني/نوفمبر هو الذكرى المئوية لتصريح بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك بالتعاطف مع اليهود لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين. وهو حقيقة لم يكن مجرد تعاطف وإنما كان تصريحاً بالتمليك عن سابق وعي لدى حكومة بريطانيا. وكان التصريح تجسيداً لفكرة تبلورت في بريطانيا لدى عدد من كتابها وسياسييها بأن حل المشكلة اليهودية يتأتى بإخراج اليهود من أوروبا إلى مكان آخر في العالم، وتمكينهم من إقامة وطن قومي لهم يمكن أن ينبثق فيما بعد إلى دولة. وفي هذا ما انسجم مع تطعات العديد من قادة اليهود الدينيين والسياسيين والمثقفين الذين قالوا بحق اليهود أن يكون لهم وطن قومي كما لكل من الإنكليز والفرنساويين وطن. وتجسدت الفكرة بأهداف الجمعيات اليهودية التي بدأت تتشكل في أوروبا مثل جمعية أحباء صهيون التي نشأت في روسيا القيصرية، وأهداف المنظمة الصهيونية العالمية التي قامت عام 1897 بقيادة هيرتزل.
هل كان يدرك البريطانيون عندئذ أن فلسطين كانت مأهولة بالسكان وأنها جزء من قطاع جغرافي وسكاني واسع اسمه سوريا أو بلاد الشام؟ طبعا كانوا يدركون ويعون ويعرفون. وهم كانوا على معرفة وبيّنة بأن هذا الوطن القومي الموعود سيقوم على حساب شعب آخر وينتهك حقوقهم وأمنهم وسلامة حياتهم. لكن مسألة التخلص من اليهود ومشاكلهم في أوروبا والأطماع الاستعمارية في توظيف اليهود كوكلاء في المنطقة كانت جامحة. وأبعد ما كان عن تفكير البريطانيين والفرنساويين عندئذ هو التعاطف مع اليهود المضطهدين لأن من يتعاطف يقدم شيئا من عنده وليس على حساب آخرين والعدوان عليهم. المفروض أن المتعاطف إنساني محترم يشعر مع الآخرين ويتحسس همومهم، وهذا لم يكن أحد ميزات حكومة بريطانيا في تقديم هذا التصريح هدية للحركة الصهيونية.
ما الذي دفع بريطانيا إلى إعطاء هذا التصريح وتساوق الدول الأوروبية بخاصة فرنسا معه؟ يعطي الكتاب العرب السابقون واللاحقون عدة أسباب ودوافع لإقدام بريطانيا على هذه الخطوة، لكن تقديري أن أهم دافع هو غياب القوة القادرة على حماية فلسطين وشعبها من العبث. صحيح أن السلطان العثماني وقف ضد منح الحركة الصهيونية حق الاستيطان في فلسطين وترحيل اليهود إليها. وصحيح أنه رفض الرشوة، وأصدر مراسيم من شأنها منع اليهود من التواجد في فلسطين مدة طويلة، ودعا الصهاينة للعيش في أسلاب الدولة العثمانية دون فلسطين بسلام وأمان، لكنه لم يكن قادراً على تنفيذ مواقفه ومراسيمه السلطانية. بدأ اليهود بالاستيطان في فلسطين منذ زمن بعيد، قبل قيام المنظمة الصهيونية العالمية، وتواجدت أقليات يهودية في عدد من المدن الفلسطينية مثل يافا وصفد والقدس والخليل. وأقامت أقلية يافا مدرسة زراعية في المدينة واسمها مكافيه إسرائيل (أمل إسرائيل) لتدريب الجيل على فنون الزراعة الحديثة. وأقاموا عددا من المستوطنات مثل بتاح تكفا (مفتاح الأمل) على أراضي بلدة ملبّس في ريف يافا عام 1978.
أقام اليهود عدداً من المستوطنات بقيادة جمعية أحباء صهيون إبان حكم الدولة العثمانية وتحت سمع وبصر السلطان العثماني. ولم يكن السلطان أبداً على قدر مراسيمه وأوامره لسببين وهما: ضعف الدولة العثمانية عسكرياً، وانتشار الفساد في كل أوصالها. لم تكن تملك الدولة العثمانية قوة بحرية تراقب سواحل الشام ولم يكن لديها ما يكفي من خفر السواحل على البر الشامي. وتحول دون دخول المتسللين اليهود إلى فلسطين، وهذا ما يفسر تزايد أعداد المتسللين مع الزمن والإمعان في البناء الاستيطاني. . وأما الفساد فكان يعني استسلام موظفي الدولة للرشاوي أو الرشى ورفع التقارير الكاذبة للباب العالي في الآستانة. عمد موظفوالدولة العثمانية إلى تهريب المهاجرين اليهود إلى فلسطين عبر معابر غير رسمية، وعبر المعابر الرسمية بالقليل من المال والنعم. ولم تكن لدى الدولة العثماني أجهزة رقابة مالية وإدارية تضمن حسن سير أجهزة الدولة.
وعليه لم يكن من الصعب دخول اليهود إلى فلسطين والعمل الدؤوب على إقامة الوطن القومي. وما يجدر ذكره هنا أن قانون تمليك الأجانب العثماني سهّل كثيراً على قناصل الدول الغربية وسفرائها بخاصة أمريكا وبريطانيا وفرنسا والنمسا شراء الأراضي وتسريبها لليهود، والضغط على الباب العالي لغض الطرف عن صفقات أراضي لليهود وكان الباب العالي يستجيب ضارباً كل مراسيمه عرض الحائط. ولهذا لم تكن تشكل الدولة العثمانية مشكلة أو عقبة أمام الهجرة اليهودية وامتلاك الأراضي وبناء المستوطنات. وتلك الأسطورة التي يستمر بعض الكتاب بخاصة ذوي الميول الدينية بتردادها حول موقف الدولة العثمانية لا تتعدى كونها خداعاً ذاتياً.
كانت تدرك بريطانيا أن الدولة العثمانية ضعيفة وعاجزة وفاسدة وآيلة للسقوط، وأنها غير مؤهلة للدفاع عن نفسها وعن أفلاكها، فأصدرت تصريح بلفور باسم الحكومة بلا خجل أو وجل. وقد تعززت قناعات بريطانيا بإدراكها أن شعب فلسطين حينئذ غير مؤهل للدفاع عن نفسه أيضاً، ولايوجد من بين العرب والمسلمين من يمكن أن يفسد عليها خططها. وما كان يشغل بالها فقط موقف فرنسا من اقتسام بلاد الشام والتواجد العسكري على البرازخ الشرقية لقناة السويس .
اطمأنت بريطانيا ومعها فرنسا إلى أن العرب جميعاً ليسوا على قدر المسؤولية وقدر التحدي، فمضت بسياساتها نحو إقامة وكيل استعماري متقدم. وقد عززت هذا الوكيل بوكلاء عرب آخرين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في أن رسخت أقدام بعض القبائل العربية لتصبح حكام المستقبل. لقد فصلت أنظمة قبلية سياسية عربية تابعة ومستعدة للتعامل مع الحركة الصهيونية بإيجابية وذلك لضمان تحالف عربي صهيوني مستقبلاً يضمن أمن الدولة المنتظرة وسلامتها. وقد نجحت في ذلك. وما نراه اليوم من هرولة نحو التطبيع والتحالف مع الكيان الصهيوني هو ثمرة السياسة البريطانية في بداية القرن العشرين. العديد من الأنظمة العربية متحالفة مع الصهاينة الآن، وهي مستعدة للسمسرة على الأمتين العربية والإسلامية من أجل أن تبقى على رأس الحكم. وإذا كان لنا أن نفسر الحملة العربية والغربية الشديدة ضد إيران والمقاومة العربية في لبنان وفلسطين، فذلك بسبب قدرة الدفاع عن الذات التي تطورت، ووضع حد للغطرسة الصهيونية وهيمنتها. إيران والمقاومة تكتسبان المزيد من القوة مع الزمن مما يضع الأطماع الاستعمارية والصهيونية في حالة جزر. وربما تهدد هذه القوة عروش بعض العرب إن استلهمت منها الشعوب العربية والإسلامية أهمية القوة في التحصين الذاتي اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، وأهمية المحافظة على الحقوق والكرامة الإنسانية في البناء الحضاري.
على مدى سنوات طويلة استمتع الاستعمار والصهاينة في التلاعب بالعرب كيفما شاؤوا، وهذا لم يعد ممكناَ الآن. تمر المنطقة العربية الإسلامية الآن بتحولات استرتيجية هامة على مختلف المستويات بقيادة العراق وسوريا وإيران ومن يتحالف معها، وبالتأكيد سيجد تصريح بلفور ومن أصدره أنفسهم في ضائقة شديدة. شهر العسل الصهيوني يشرف على نهايته.