نعيش تجربة جديدة تتطلّب من العرب عزيمة وإيماناً لا سابق لهما
حدّثتني المناضلة
الجزائرية جميلة بوحيرد في لقائي معها عام 2008؛ إذ قالت لي: حين حكم عليّ الاستعمار
الفرنسي بالإعدام، وكنت في الثامنة عشرة من عمري، أتت والدتي لتزورني، وكان من المفترض
أن تكون تلك الزيارة الأخيرة، وأن يكون ذلك لقاءها الأخير مع ابنتها التي سوف ينفّذ
فيها حكم الإعدام قريباً.
قالت لي والدتي لا
تخافي يا بنتي ولا تحزني، ستكون مكانتك كبيرةً في الجزائر، والجزائر تستحقّ أرواحنا
جميعاً، ولم تضعف والدتي، ولم تبكِ، بل حيّتني تحية المجاهدة الواثقة من النصر وانصرفت.
بعد أن انصرفت، وجدتُ
السّجانة الفرنسية، التي كانت تراقب لقاءنا وتسمع كلّ كلمة، وجدتها تبكي، واعتقدتُ
أنها ربما تبكي عليّ لأنني سوف أُعدم، فقلت لها لماذا تبكين؛ إذا كانت والدتي لم تبكِ،
وأنا لم أبكِ، فلماذا أنتِ تبكين؟ قالت: أبكي على فرنسا؛ لأننا حتماً سنغادر الجزائر
إذا كان الجزائريون والجزائريات بهذه العزيمة وهذا الإيمان!
والعزيمة والإيمان
هما أساس انتصارات كلّ شعوب العالم على المستعمرين والطغاة والمرتزقة، وهما أساس حركات
التحرر الوطنية التي انتشرت في بلدان آسيا وإفريقيا للتخلّص من الاستعمار الغربي الدموي،
الذي كان ولا يزال يطمع بثروات الشعوب لبناء مجده وتحقيق ازدهاره.
اليوم نعيش تجربة
جديدة تتطلّب من العرب عزيمة وإيماناً لا سابق لهما، حيث يواجه الفلسطينيون منذ 70
عاماً المحتلّ الإسرائيلي بأجسادهم النحيلة، التي لا يملكون سواها للمقاومة، وقد انتُزعت
منهم كلّ أدوات المقاومة إلا عزيمتهم الصلبة، وإيمانهم العميق بفلسطين، وأنّ فلسطين
تستحقّ منهم التضحية، وأنّ فلسطين باقية، ولا تزيدها معاناة المقاومين ودماء الشهداء
إلا ألقاً وكبرياء ورسوخاً في ضمائر البشر، ولكنّ السؤال هو: لماذا افترض العرب والمسلمون
أن فلسطين هي مسؤولية هؤلاء الأسرى فقط، على حين ينشغل المعنيون بالشأن الفلسطيني والعربي
والإسلامي بتسويات وتنازلات لن تسمن ولن تغني من جوع، معتقدين أن قراراتهم وكلماتهم
سوف تغيّر من مجرى المخططات الصهيونية التي لن تتوقف عند قضية فلسطين وحدها، بل هي
تطمع بثروات عرب العراق وسورية والخليج، وهم في أضعف حالة من التمزق يساعدها الإرهاب
الوهابي العميل؟ أما الاعترافات والتنازلات فهي بوالين فارغة وكلمات مسطحة لا يقيم
لها المحتلّ وزناً، فهو ليس خائفاً، وليس قلقاً من صفوف متشرذمة وإرادات مبعثرة ورؤى
لا يجمع بينها جامع، ولكنه قلق فقط من أمثال هؤلاء الأسرى المؤمنين بقضيتهم والمستعدّين
لبذل آخر يوم من حياتهم في سبيل أن تحيا فلسطين، وأن تستمرّ الشعلة مضيئة في أيدي الأبناء
والأحفاد، وكي لا تعتقد الأجيال القادمة أن أحداً لم يقاوم ولم يستبسل في سبيل القضية
المقدسة.
لا شكّ أن السجانين
الإسرائيليين، وهم يراقبون هؤلاء الأسرى، يشعرون بإحباط وقلق شديدين لأن قضية تمتلك
روحاً وإرادةً مثل أرواح وإرادة هؤلاء المدافعين المؤمنين بها لا يمكن أن تموت أو أن
تسقط في التقادم.
السؤال الآخر هو
أن مليار مسلم ونيّفاً يعيشون اليوم في رحاب شهر شعبان، يستعدّون لاستقبال شهر رمضان
المبارك، ومع ذلك لم يحوّلوا صيام الأسرى المقدس إلى صيام تسمع به البشرية في أصقاع
الأرض الأربعة، ولم يحوّلوا هذا الاستبسال إلى حركة عالمية من أجل فلسطين ونصرة أسراها،
والخاسر هنا ليس الأسرى مطلقاً، ولكنّ الخاسر الأكبر هم هؤلاء المتخاذلون أنفسهم من
عرب ومسلمين؛ إذ إنهم يقوّضون مكانتهم في أعين العالم ويتسببون في إلغاء أيّ قيمة لهم
في أنظار الآخرين، فأيّ مكانة ستكون للعرب والمسلمين الذين لم ينتصروا لإخوانهم ولقضيتهم،
ومنذا الذي سوف يحسب حساباً لهم في أي مسألة أخرى؟
إنّ تجاهل معظم العرب
والمسلمين لأهمية هذه المعركة الدائرة التي يخوضها هؤلاء الأبطال العزّل، يشير فقط
إلى انفصال هؤلاء العرب والمسلمين عن دورة الحياة الحقيقية، وعن موازين القوى، وعن
جوهر التفكير الإستراتيجي الذي يبقي الأمم ذات مكانة ورفعة في أعين الآخرين.
إن إخفاق هؤلاء أن
يتجاوبوا بشكل لائق مع التضحيات العظيمة التي يقدّمها هؤلاء الأسرى لفلسطين والعرب
جميعاً ولأمة المسلمين، هو أحد أبرز الأوجه للانقراض؛ إذ إن الأمم تنحدر وتنقرض حين
تفقد البوصلة الجامعة بين أبنائها، وحين تتفكك الروابط بين أبنائها، ويصبح من شبه المستحيل
أن تجتمع على كلمة سواء.
أي إن القصور الذي
شهدناه من معظم العرب والمسلمين في التضامن مع الأسرى وحمل قضيتهم إلى رحاب المنطقة
والعالم ليس قصوراً فلسطينياً يرتبط بالقرار الفلسطيني المستقلّ الذي أوصل دعاته الفلسطينيين
إلى العزلة الحالية، وهو أيضاً قصور ذو دلالات خطيرة على المقصرين أنفسهم، وعلى احتمالات
توجّهاتهم وحركاتهم المستقبلية، والمستوى الذي يمكن توقعه لهم: «لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين».
لا شكّ أن المعركة
التي يخوضها هؤلاء الأسرى بأجسادهم السجينة وأرواحهم الأبيّة الشامخة هي معركة مشرّفة
ومعركة رابحة بكلّ المقاييس، تنتصر بها الروح على الجسد، والعزيمة والإيمان على السلاسل
وجدران السجون وقسوة السّجان، ولكنها معركة تدعو للتوقف والتفكير بمستقبل ومصير أمة
في غياب أحزابها القومية، وفي ظلّ أحزاب إسلامية طائفية مزّقت الأمة وسلّمتها لقمةً
سائغةً للعدوّ الغربي المتربّص بها لنهب واغتصاب الأرض والحقوق العربية.
إنها معركة تدعو
للتأمل والتساؤل من السجناء؟ هل هؤلاء الذين يتحدّون أقسى الإجراءات بأجسادهم وإرادتهم؟
أم إنهم أولئك الذين يعيشون في أوهام التسويات والأكاذيب والانتصارات الشخصية الوهمية
التي لا تتجاوز حدود تفكيرهم المحدود أصلاً؟ إنها معركة تظهر للعيان أن هؤلاء الأسرى
هم الأحرار الحقيقيون، وأنّ من لا يمتلك إرادة وأدوات الانتصار هو السجين جسداً وروحاً
وعقلاً وإرادةً وعزيمة.