احتلال العراق و"المكوّنات" وتأثيرات " الكيد المُرتد"
يمارس الاحتلال لعبته الثنائية في حالتين، حين يكون الصراع الطوائفي هو الأصل أحياناً وحين يكون الصورة أحيانا أخرى. ويتجاهل كلياً أن هذه الحروب التي تنمو كالفطر في ظلام التآمر والاستبداد، ستتحوّل آلياً من الأداة إلى الحل والعكس هو صحيح دائماً، ولأن أميركا لا تؤمن بالكتل الاجتماعية والسياق التاريخي للصراع، فإنها من خلال فكرها الامبراطوري لم تشبع لحد الآن من فكرة "القائد" الخاص الذي يمكن التفاهم معه أو القضاء عليه.
مصالح كل القوى المنخرطة في الكيد المُرتدّ تجري في نهر واحد من الإذعان والتواطؤ واقتناص الفرص
ها هي معاجم الطوائفية السياسية تغطي مفرداتها الخطاب اليومي والذي يكرّر دائماً
من أجل تسويغ حكم الأهل والغنيمة البائد. ولأنهما جسد واحد ولأن أحدهم النبع
والثاني الينبوع، فلم يكن أحدهما في العراق يمتلك القليل من الذكاء في زمن
الاستقرار لكي يؤدّي إلى الكثير من الحصافة في وقت الحرب. وإذا كان لكل أجل خطاب،
كما يقال، فإن لكل خطاب أجل. ولا تعاند الطوائفية
نشأتها، ومن ثم هي لا تستطيع ممارسة نهجها الفكري بمعزل عن السياسة
والموارد. وقانون الأواني المُستطرقة قد أدخل الأطراف في نفق واحد. وأثبت أن الميل
لدى الطوائفية السياسية لإلغاء أو تجاهل أصولها السابقة والتي كانت السبب الرئيسي
في نموّها، هو أقوى من رغبتها في التفاهم الداخلي في ما بينها أولا وفي التفاهم
العراقي ثانياً. علماً أنها تتناسى ضمورها السابق
التاريخي الطويل أمام طغيان السلطة السياسية المركزية، ولاسيما في ظل
البونابرتية العسكرية للحزب الواحد وقبل الغزو الأنكلو أميركي في عام 2003، وكيف
كانت الأطراف ،متّفقة أو مختلفة، ترفع شعاراً واحداً: عدم الاعتراف بشرعية الدولة
القائمة مع عدم الخروج عن طاعتها.
وهكذا تثبت الأطراف بكل سهولة ونزق،
بدل أن يكون الواقع بكل تضاريسه حاكماً على صحّة ثبوت النص السياسي الذي طرحوه،
يكون النص نفسه الملفّق حاكماً على صحّة ثبوت الواقع الجديد بكل تزويره الفظ. وعليه ستكون الموارد والسوق والديمقراطية
المستوردَة المسلّحة هي الثالوث المشترك الذي يصهر الجميع في بوتقة الاحتلال
الواحدة. أما الدعوات الرخيصة الموجّهة إلى الناس الذين يعيشون "تحت"
هذه الأهوال فتلخّصها النتائج المفزعة والتي تتحدّث ببلاغة بأن هذا الخلاص الجديد
هو ليس من أجل تغيير صورة الواقع، لكي يتكيّف مع أحلام الناس، وإنما عملياً تغيير
أحلام الناس ،من المجتمع إلى الطوائفية السياسية، لكي تتكيّف مع هذا الواقع المُزيّف
وقصوره المُتخيّل.
يمارس الاحتلال لعبته الثنائية في
حالتين، حين يكون الصراع الطوائفي هو الأصل أحياناً وحين يكون الصورة أحيانا أخرى.
ويتجاهل كلياً أن هذه الحروب التي تنمو كالفطر في ظلام التآمر والاستبداد، ستتحوّل
آلياً من الأداة إلى الحل والعكس هو صحيح دائماً، ولأن أميركا لا تؤمن بالكتل
الاجتماعية والسياق التاريخي للصراع، فإنها من خلال فكرها الامبراطوري لم تشبع لحد
الآن من فكرة "القائد" الخاص الذي يمكن التفاهم معه أو القضاء عليه. لذلك
هي تسعى دورياً إلى تحقيق مأسسة استراتيجية "بقعة الحبر" الفيتنامية، في
العراق والمنطقة. ولأن الإدارة الراهنة مرعوبة من ضغوطات مختلفة، فهي تأخذ على محمل الجدّ الصراعات القبلية في
الكونغرس بين مدرستيّ ،ويلسون وكيسنجر، فإنها تلتقط ذبذبات المؤسسة الأميركية
التقليدية ، بخفّة حول أهمية الانتقال السريع من موقف إلى آخر مضادّ وضمن واقعية
ويلسون المعتوهة وتنظيم اللا مسؤولية في ألاعيب هنري كيسنجر المعروفة.
تمثل المعركة العسكرية التي تحصل في
الموصل والأقاليم المحاذية وتقودها عملياً أميركا المؤسسة، نموذجاً تقريرياً للمزيج الهجين النادر بين ماكيافيلي الإيطالي ومترنيخ
النمساوي. إنها التحطيم الشامل لقوى العدو في الاتجاهين للحرب المطلوبة. ما تقوم
به أميركا هو استكمال بما قام به داعش. إنه سياسياً الآن "الكيد المُرتدّ"
المُضادّ والذي ينتقل من خلال البشر ومؤسساتهم ذهاباً وإياباً من بغداد إلى واشنطن
وعبوراً في لندن ومشتقّاتها الأوروبية. من هنا لا يمكن التفريق بين التدمير الذي
حصل أو يحصل بين "التحرير" و"الاحتلال" في ضفتيّ الكيد المُرتدّ.
ما يذكّرنا بأحد قادة الحروب الطوائفية في أوروبا القرون الوسطى حين قال: الناس
تتألم وتموت ولكن الكنيسة تتقدّم وتُحرز نجاحات مدهشة.
وهذا ما يدفع الاستراتيجية الأميركية إلى
زيادة وتيرة الاعتماد على حروب الوكالة داخل العراق وخارجه، من أجل ربط هذه
المعارك في خيط واحد يخدم الهدف السياسي الموحّد. وهي تدرك جيّداً بأن الهلال
الشيعي أكذوبة مُكرّرة والهلال السنّي المعطوب بالمليارات التي قبضها مؤخراً
الرئيس الأميركي في مؤتمر الحروب الدائمة. كما أن الحديث عن الهلال الكردي هو
تأتأة عجائز إذ كيف يمكن له أن يظهر في سماء أميركية واحدة مليئة بالكواكب
الذابلة. أما الغاية الأساسية في المآرب الأميركية فهي تطويع الاتفاقية
الاستراتيجية "السرية" ، وليست العلنية، والتي عقدت في عام 2008،
وتكريسها حالياً لمبدأ توازي الانتصارات على الأرض مع القدرات الخلاّقة لشركات
النفط العالمية، وفي المقدمة أكسون موبيل، والتلويح بإعادة الإعمار في مناطق
الدمار من خلال تحويل عقود الخدمة النفطية مع الشركات العالمية إلى عقود شراكة
لغرض توظيف نفوذ هذه الشركات مع أقطاب القرار السياسي الأميركي وخصوصاً في
الكونغرس .
ويمكن القول من دون مبالغة بأن مقالة
" زلماي خليلزاد " في "مجلس الباسيفيك للسياسات الدولية" في
12 أيار 2017، تشكّل جزءاً من التقارير الأخيرة لمحلّلي الغزو وخبراء الهيمنة
وسفراء أميركا في العراق المحتل. ويدعو هذا الزنيم إلى سياسة جديدة يُسمّيها : "Congagement"
وهي تعني " احتواء + انخراط " مع
إيران والقوى الحيّة المُناهِضة لأميركا في العراق والمنطقة . وهي تتطابق في لحمتها
وسداها مع الدراسة الفذّة التي كتبها قبل فترة الأكاديمي الأميركي "ستيفن
غراهام" حول العلاقة بين الاحتلال الأميركي والعراق والمنطقة، وكيف أن تأثيرات الكيد المُرتد هي السائدة في
هذه العلاقة وهي تشمل وتتّخذ أشكالاً متعدّدة ومحتويات مختلفة في كافة الصعد
الحياتية. وهي تشكّل سمات مشتركة بين أطراف الصراع الداخلي والخارجي وتفرض ضغوطات
هائلة على مجمل تطوّرات العمليات السياسية والعسكرية في البلاد.
وعليه، إن خطورة الكيد المُرتدّ هي في
إنكاره اليومي والحاد للخصائص الوطنية الموحّدة للمجتمع العراقي وتاريخه المشترك
وجغرافيته السياسية المتكاملة. وهو يؤكّد على أن الجمع بين المصالح والقِيَم هو
موجود فقط في الردهات الأكاديمية وعلى مقاعد الدراسة.
إن مصالح كل القوى المنخرطة في الكيد
المُرتدّ تجري في نهر واحد من الإذعان والتواطؤ واقتناص الفرص، والإسراع في تغيير
المواقف إنسجاماً مع المتغيّرات الحادّة في لوحة الصراع. إن الكيد المُرتدّ ومضادّه
يؤدّي دوراً مركزياً في إدارة طاحونة الاحتلال ومصالحه. وهو إذ يساهم مع الاحتلال
في عرقلة نمو الدولة الوطنية الواحدة لكنه يبني في الاتجاه الآخر "مظلّة"
جديدة بموافقة الاحتلال المؤقتة والوقتية، ولها شبكات إقليمية هامة وتتمتّع
بعلاقات عالمية خاصة في المتروبول وتعبّر عن مصالحه وتستند إلى عقيدة عبادة
الخصخصة والنهب في استراتيجية الاحتلال المعولمة.