العراق المحتل الاستفتاء الكردي: الإستيلاء والتقسيم والحروب
يحق لنا الاستنتاج بدون مبالغة أن أحداث العراق، منذ حزيران 2014 ولحد الآن، وتحديداً إحتلال الموصل من قبل "داعش" والحملة العسكرية القائمة لتحريرها، هي منصة عسكرية وتعلة سياسية يستخدمها "مسعود البارزاني" من أجل تحقيق برنامج العشيرة السياسي والتاريخي وضمن الموازين التي يتصورها في الوقت الحالي
مسعود البارزاني يستخدم إحتلال الموصل من قبل "داعش" والحملة العسكرية القائمة لتحريرها كمنصة عسكرية وتعلة سياسية
في معرض حديثه عن تخلي الولايات
المتحدة عن الكرد عام 1975، يشير هنري كيسنجر في دراسة أكاديمية مهمة، للكاتب
الكردي سردار عزيز في 2007، إلى : "أن العمل السري لا يجب تشويشه مع النشاط
التبشيري. لم يكن هدفنا في مساعدة الكرد هو فوزهم بقدر ما كنا نريد إضعاف العراق
ومنعه من مساعدة سوريا والتحول إلى التحالف معها". ويؤكد "عزيز"
أن كيسنجر قد إعتمد في تشخيصه للكرد على تقرير مهم كتبه "هارولد ساندرز" – توفي عام 2016، في عام 1972 وحين كان عضواً في مجلس الأمن القومي
الأميركي ملخصه : "أن الكرد ورقة مهمة وأدوات نموذجية". ويعقب كيسنجر
على ذلك بأن : "عائلة البارزاني، أحدهم ذو عقل محدود ولا يعرف المفاوضات،
ولقد تعلمنا من التاريخ أن القراءة حول الأبطال أفضل من التعامل معهم". وفي
دراسته لتلك الحقبة، ميدل إيست كوارترلي 1994، يعلق الضابط السياسي الأميركي "ديفيد
كورن"، كان مسؤولاً مهماً في بيروت في
الستينات من القرن السابق، أن الكرد وعشيرة بارزاني لديهم مبكراً خرائط سياسية
تستعمل في نشاطاتهم العسكرية والدبلوماسية. وهي خرائط إستيلاء وتقسيم تخدم هدفهم
المرحلي دائماً. بل أن المؤرخ السياسي "جرجيس فتح الله"، توفي عام
2006، قد ترجم، كتاب الحرب الكردية وانشقاق 1964، وهو للصحفي الأميركي "ديفيد أدامسن" ، حيث يذكر "الملا" مصطفى البارزاني : "أنه
بتحالفه مع الولايات المتحدة لا يريد الإضرار بالمصالح االإقليمية والحدودية
لتركيا وإيران، إنه يريد فقط" دولة كردية "في العراق تابعة للولايات
المتحدة".
من هنا يحق لنا الاستنتاج بدون مبالغة
أن أحداث العراق، منذ حزيران 2014 ولحد الآن، وتحديداً إحتلال الموصل من قبل
"داعش" والحملة العسكرية القائمة لتحريرها، هي منصة عسكرية وتعلة سياسية
يستخدمها "مسعود البارزاني" من أجل تحقيق برنامج العشيرة السياسي
والتاريخي وضمن الموازين التي يتصورها في الوقت الحالي. علماً أن اللوحة المباشرة
تتضمن الشرح الموجز التالي: 1 / إن من
يشاهد وضع النظام الإقليمي لابد أن يعتقد بأن مبدأ القيادة الواحدة والمتفردة قد
توارى وأن من الضروري إعادة تشكيل التحالفات على ضوء العلاقات المركبة بين توازن
القوى وتوازن المصالح. 2/ إن برنامج العائلة البارزانية في الإستفتاء والانفصال
هو جزء من هذا الحراك العام ويخضع لقوانين الصراع المحتدم الأساسية. وإن رفض بعض
القوى العالمية، ومنها إدارة ترامب، والإقليمية، ومنها تركيا إردوغان، لا يمكن
التعويل عليه ضمن السياسات المتموجة
للطرفين والقيم الذرائعية المتدنية في مرجعيتهما الفكرية. 3/ إن القيادات الكردية
من النمط البارزاني تميل دوما نحو "الكيانية" التابعة والتي هي البديل الاستعماري
لمؤسسة الدولة – الأمة، ذات السيادة الوطنية والاستقلال السياسي. ومن هذه الزاوية
يحاول البارزاني المستحيل من أجل أن تساعده القوى الكردية الأخرى في إخراج
الكستناء من نار الصراعات المحتدمة. 3/ إن الدعوة إلى ولادة الدولة الكردية تتضمن
في جوهرها تناقضات متعددة خاصة وعامة وكلها لا تتطابق مع مسيرة الصراعات في العراق
والمنطقة. فالمعركة مع "داعش" أصلاً لن تنتهي مباشرة بعد تحرير الموصل.
وأن تحديد زمن الاستفتاء في أيلول المقبل لا يمكن تحقيقه في ظل مضاعفة المعارك
العسكرية في الموصل وفي كل الأرجاء القريبة منها وفي كل الاتجاهات وهذا يعني بقاء
مناطق الاستفتاء في مرمى نيران معارك دموية سترتفع ولا يستطيع أحد التكهن
بعقابيلها أبداً. إن مشكلة بارزاني، مثلاً، إن الحكومة المركزية حتى لو وافقت على
الاستفتاء والانفصال فلن توافق إلا على ثلاث محافظات فقط، وهي دهوك أربيل والسليمانية، وحدودها هي الخط الأزرق في عام الاحتلال 2003. وبعدها تبرز مشكلة حدود هذه
المحافظات مع تركية وإيران وقد تم تخطيطها مع العراق ضمن قواعد دولية معروفة. 4/
إن المسألة الجوهرية التي ستطرح نفسها هي في شكل ومضمون هذه الدولة في سياق
المعرفة التاريخية أولاً وفي مجرى التطبيق العملي ثانيا. إن "الدولة"
التي يبشر بها البارزاني ستكون هي البديل عن ولادة الدولة التي تتحدث بها القوى
الكردية تاريخياً في نطاقها الجيوسياسي المفترض، وهي أيضاً ستتحمل مسؤولية (وأد
الحلم الكردي)،فلا يمكن أن تكون دولة كردية دون رضا هؤلاء ومباركة المجتمع الدولي.
إن القيادة البارزانية ترتكب عدة أخطاء
مترابطة ومتراكمة وأولها هي عدم الغوص في أهمية عامل "الزمن" الحاسم في
صياغة البرنامج الملائم في الوقت الملائم، بل هي تزعم من خلال قراءة ملتوية بأن
الأمور لصالحها وأن لغة المصطلحات الفجة، من نوع أن هذه المنطقة كردية وتلك
كردستانية، وإضافة إيقونات معينة ملفقة من نمط أن كركوك هي "قدس الكرد"
قد يورطها في جملة مآزق لا يمكن توقعها. وثاني الأخطاء أن فقدان "الصبر
الإستراتيجي" لقوى صغيرة في ظل صراع الحيتان في المنطقة ستكون النتائج كارثية
على شاكلة أن هذه الدولة "البدعة" أما هي تقضي على بقايا مجتمعها أو
يدفن هذا المجتمع هذه البدعة كلياً. علماً أن قوات البيشمركة تعتبر رسمياً من قبل
الكونغرس الأميركي كتائب مسلحة عصرية تشبه الحرس البريتوري المحلي للإمبراطوريات
القديمة.
لذلك من الضروري الوقوف قليلاً إلى
الوراء من الأشجار والنظر إلى الغابة كلها ونرى بأن الوضع الإفتراسي للعراق الحالي
يمنح الفرص المتناقضة لكي تتحول إلى وقائع قاسية على أرض الصراع. ذلك لأن البرنامج
البارزاني للإستفتاء يحيلنا إلى العلاقة المعقدة بين ثلاث عتلات للحراك المطلوب أن
يتطابق مع الأطماع الخاصة للعائلة البارزانية. العتلة الأولى، الرمزية، وهي
الموارد النفطية الموجودة في مناطق الخط الأزرق وتضاف إليها المناطق التي احتلتها
قوات بيشمركة البارزاني في كركوك وسيطرتها على حنفيات النفط هناك. هذه الأموال
تعتبر ملكية خاصة وقد تم الاعتراف بها من قبل وزير الخارجية الأميركية "ريكس
تيليرسون" منذ عام 2011، حين كان رئيس شركة "أكسون" النفطية، وكان
"جيمس جيفري" هو السفير الأميركي في العراق وبعدها أصبح في 2013 مستشاراً خاصاً لشركة أكسون. وقد فضح ذلك الصحفي المراسل في وكالة رويترز "نيد باركر" في تقريره الشهير
"إكسون ترسم حدود دولة كردستان العراق". أما العتلة الثانية، المتخيلة،
فهي رغبة البارزاني بأن يموت، في المقابلة
مع "فورين بوليسي" 15 حزيران/يونو الجاري، تحت علم دولته الكردية. والعتلة
الثالثة، الواقعية المعتوهة، وهي الصراع الجيوسياسي الدموي في المنطقة والذي
سيفرز حسب توقعات البارزاني المحمومة
نتائج متطابقة مع رغباته ومن يتفق معهم.
وعليه فإن الاستفتاء والانفصال حالة
محلية طوائفية عراقية لها طموحات عائلية – عشائرية تكبلها قيود إقليمية غير
متجانسة،كما تشجعها أيضاً تدخلات هجينة، وتحرسها عناية دولية مرتبكة ومراوغة. ناهيك
أنه مخالف لحزمة ثلاثية من القوانين على المستويات العراقية والإقليمية والدولية.
لكنه في العقل القبلي يبدو منسجماً مع مفهوم "الأهل والغنيمة" والذي أسست
عليه معظم المشيخات المعروفة وخاصة في منطقتنا العربية. ومن هذه الزاوية نعثر على شروحات
وافية لبرنامج البارزاني تؤدي إلى نتائج
معاكسة لمطامعه الخاصة. فعلى الصعيد الكردي صدرت دراسة مثيرة للكاتبة المرتبطة مع حزب البارزاني "سوزان ئاميدي"
تفسر فيها الانفصال بكونه محطة ،مؤقتة أو مباشرة، للاتحاد كونفدرالياً مع تركيا إردوغان، ذلك لأن تركيا هي بوابة الكرد للخروج من قفصهم الجيوسياسي. كما أنها
تطرح أسئلة مهمة تدفعنا للتذكير بالمشروع السعودي الذي طرح في عام 2008 من خلال
دراسة عنوانها "من المستنقع إلى اليابسة" الذي كتبه "نواف
عبيد"، مستشار أمني بالحكومة السعودية ومدير مشروع تقييم الأمن الوطني
السعودي، والذي أعتبر مقدمة لبناء دولة عراقية من "السنة العرب والكرد"
تقف بوجه ما يسمى "المكون الشيعي" الحاكم والمرتبط مع إيران وتكون مهمة
هذا المشروع محاربة إيران وتحرير بقية العراق من نفوذها السياسي والمذهبي وتصفية دورها
في المنطقة.
إن الاستفتاء هنا هو هروب مصطلحي من
ضغوطات الصراع السياسي والانفصال هو تحايل سياسي على الحق الفكري في تقرير المصير
للشعوب التي أهملها التاريخ وعاقبتها الجغرافية. إن الاستفتاء في الفكر السياسي المعاصر
يعني دائماً، فرص تقوية "السلطة" أو الوصول إلى "السلطة" مما يبدو
أنه يشمل "سلطة بارزاني وعائلته" أكثر مما يمت بصلة إلى فكرة توحيد
الشعب في دولة مستقلة ذات سيادة كاملة.