كان الشقاقي في حياته ومواقفه مُخلصاً وفيّاً لعبارة (رحلة الدم الذي هزم السيف)
في
أجواء التصارُع بين الفرقاء الفلسطينيين وخاصة (فتح وحماس)، وفى مناخ التنازلات
العربية المجانية والبكاء المُخزي فى جنازة بيريز لقادة فلسطينيين وعرب، ومع
انحراف البوصلة بعيداً عن فلسطين إلى حيث داعش وأخواتها فى الموصل وحلب .. يحضر
الشُقاقى.. وتأتى الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاد ذلك القائد الجهادي الكبير
الدكتور فتحي الشُقاقي الأمين العام والمؤسّس لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. اليوم، نتذكّره ليس فحسب لأنها ذكرى استشهاده،
ولكن لأن أفكاره ومبادئه، ورؤاه الفذّة، تكاد تتطابق في معانيها الكبرى مع ما يجرى
اليوم، وتكاد حلولها الجذرية تُجيب على تساؤلات اللحظة الفلسطينية القلقة، وتضع
بين أيدى أبناء فلسطين والأمّة الحل الأمثل.
إنه
الحل الوحيد الذي كان يُتقنه الشُقاقي وترجمت سيرة حياته القصيرة؛ (المقاومة)، لقد
كانت حياته، ومواقفه، مُخلصاً وفيّاً لعبارة (رحلة الدم الذي هزم السيف)، ولأن
كاتب هذه السطور كان قريباً إنسانياً وفكرياً من الشهيد، بل كان آخر من ودّعه قبل
استشهاده في جزيرة مالطا يوم 26/10/1995 عندما التقينا في طرابلس فى ليبيا وقضينا
أسبوعاً كاملاً معاً، كان هو الأسبوع الأخير في حياة الشهيد (أبو إبراهيم).
لقد
كان يوصيني، من دون أن أدري، على أسرته ووطنه ورفاقه، وما كان مني إلا أن كتبت
بعضاً مما تحدّث به إليّ، ثم وجدت أن الوصية الأهم هي أن أجمع كل إنتاجه الفكري
والسياسي وأضمّنه مُجلّدين كبيرين (2500 صفحة) احتوت على أعماله الكاملة وعنوَنتها
عام (1996) باسم (رحلة الدّم الذي هزم السيف).
اليوم
نستحضر (الشُقاقي) فكراً وحياة، وسط الصٍراع واضطرابات المنطقة وزلاّزلها،
نستحضرها بعد أن أطلق د. رمضان شلح الأمين العام الحالي لحركة الجهاد مبادرة من
عشر نقاط لحل القضية الفلسطينية عبر المقاومة وإسقاط أوسلو وسحب اعتراف منظمة
التحرير بإسرائيل، ولو كان الشُقاقي في حياته اليوم، ربما كانت هذه المبادرة قد نُفّذت
بالفعل وليس بالكلام أو الخطابات في الساحات العامة، أو عند أعتاب أبومازن وكل مَن
باع فلسطين!
اليوم
نتذكّر الشُقاقي .. ولأنه كان مدرسة، ونبع جهاد لا ينضُب، ولأن الأجيال الجديدة من
أبناء فلسطين والأمّة العربية لم يتيسّر لها أن تعرفه جيّداً فليسمحوا لي بأن أسجّل
في هذا المقال المحطّات الرئيسية في حياة هذا الشهيد الكبير، علّها تفيد وتصوّب
الخطى ناحية فلسطين.. فماذا عنها؟ .
كانت
حياة الشهيد المُعلّم الدكتور فتحي الشُقاقي، سلسلة من المحطّات، ذات المعنى.
المحطة
الأولى: تقول أنه ولِد بعد نكبة 1948 بثلاثة أعوام، ولِد في مخيم رفح للاّجئين
الفلسطينيين في قطاع غزّة، من أسرة فقيرة، بسيطة مثل كل الأُسَر الفلسطينية المُشرّدة،
وكان الوالد عاملاً وهو إمام القرية وقتها وكان مُتديّناً، جاءت الأسرة من قرية
زرنوقة القريبة من يافا (أجمل وأقدم مدن فلسطين المُحتلة)، توفيت والدته وهو في
الخامسة عشرة من عمره، وعاش يتيماً، أنهى دراسته الثانوية في مدارس القطاع التي
شهدت البدايات الأولى لنشاطه السياسي الذي ازداد وضوحاً وتبلوراً بعد هزيمة 1967: في
الفترة السابقة على العام (1967) ؛ وفقاً لما يرويه الشهيد في أحد أحاديثه الصحفية
“كانت لديّ بعض المشاورات في الحياة السياسية ولديّ تجربة سياسية داخل المدرسة، أذكر
أن موضوعات الإنشاء التي كتبتها في المدرسة الإعدادية والثانوية، كانت محل اهتمام
المُدرّسين بسبب ما تطرحه من قضايا سياسية وما رآه المُدرّسون من بلاغة فيها، وشاركتُ
في خطابات الصباح المدرسية، خصوصاً في الفترة التي اتّخذت منحىً وطنياً، وكانت
لديّ مُشارَكة رئيسية فى صحف الحائط في تلك المرحلة".
"لاشكّ
في أن المدّ الناصرى، الذي كان على أشدّه، ألقى بظلاله علينا، فتعلّقتُ كثيراً
بعبد الناصر كشخص وزعيم عربي، وكان له الفضل في أنني لم أصبح شيوعياً، إذ أنه بسبب
اهتماماتي السياسية المُبكرة استهوتني فكرة المساواة بين البشر، فكرة التساوي
جعلتني أبحث في "مدرسة الشيوعية"، إلى أن حصلت على كتاب “حقيقة الشيوعية
“من سلسلة “اخترنا لك “التي أصدرتها وزارة الإرشاد القومي المصرية، قرأت مُقدمة
الكتاب التي كتبها عبدالناصر مُهاجماً الشيوعية، تلك المُقدمة صرفتني عن التفكير
بالشيوعية وانحصر نشاطي وتوجّهي السياسي في الناصرية".
وفي
العام 1966 شكّلت مع أخوين صديقين كانا أكبر مني سنّاً، أول تنظيم سياسي أتعامل
معه، كان تحت المظلّة الناصرية بريئاً بسيطاً وعادينا فيه الحزبية، سيراً على نهج
عبدالناصر، ووفّرنا الفرصة لزملائنا في المدرسة الثانوية كي يبتعدوا عن المسارات
الحزبية، التي انتقدها عبد الناصر ورفضها، لكن المجموعة بقيت صغيرة إلى أن ذابت
وانهارت في ظل التعقيدات، وإن كان الإخوة الذين شاركوا في تأسيسها اتّجهوا نحو
الاتّجاه الإسلامى لاحقاً “.
المحطة
الثانية: هزيمة 1967
شكّلت
هذه الهزيمة نقطة تحوّل كبرى في حياة الشهيد فتحي الشُقاقي الذي لم يكن قد تجاوز
بعد الستة عشر ربيعاً، حيث مثّلت وفقاً لقوله “مفصلاً لشاب يطمح في التحرير
والعودة إلى الوطن، كان مُفاجئاً لنا أن ينكسر زعيم كعبد الناصر، ذلك الانكسار
الكبير، فأُصبنا بعدم التوازن، وأذكر أننا أدمنّا لاحقاً مقالات الكاتب الصحافى محمّد
حسنين هيكل، إذ أنها أعادت لنا بعض التوازن من خلال سماعنا لها فى إذاعة “صوت
العرب"، أعاد لنا هيكل التوازن بتفسيراته ومُبرّراته لأسباب الهزيمة في يوم
الجمعة الذي يُذيب القلق الموجود لدينا بقية أيام الأسبوع، غير أننا اقتنعنا أن
ذهاب القلق غير مُجدٍ، فبدأ تحوّلي إلى طريق مختلف وهو المنحى الإسلامى “.
أما
لماذا لم يقتنع الشُقاقي بالفكر الذي كان سائداً في تلك الفترة فيُبرّره هو قائلاً:
“الفكر الذي قُدّم لي في تلك الفترة لم يكن مُقنعاً للشهور التي قضيتها مُتألّماً
ومسحوقاً، لم يُقدّم التفسير الفعلي لأسباب الهزيمة، بينما كان الفكر الإسلامي
الذي جاء أكثر اقناعاً بالنسبة إليّ خاصة لأسئلة عميقة من قبيل: مَن نحن؟ لماذا
نُهزَم؟ ولماذا الآن؟ لماذا انتصرنا سابقاً وخسرنا الآن؟
لم
يستطع الفكر الناصري وقتها أن يُقدّم إجابات كافية عن تلك الأسئلة، وبالتالي بدأت
الطمأنينة تأتي من الفكر الإسلامي الذي تعرّف عليه الشُقاقي بطريق المصادفة. ويؤكّد
الشُقاقي أن كتاب الشيخ محمد الغزالى (كيف نفهم الإسلام؟) كان هو السبب الأوّل في
بداية تعرّفه على رحابة المشروع الإسلامي، ويؤكّد الشُقاقي أيضاً أن كتاب (معالِم
في الطريق) كان له التأثير الأكبر في تحوّله إلى المشروع والمنحى الإسلامى، إلا أن
التحليل المُنصِف – فضلاً عن رواية الشهيد ذاته – تؤكّد أن ثمة مجموعة من المؤثّرات
دفعته نحو الإسلام بقوّة منها وِفقاً لروايته (البُعد الديني في العائلة وفي
الشخصية)، وانكسار الأفكار التي كنت مُتمسّكاً بها ومحاولة البحث عن حل والبحث عن
إجابة. التعرّف على كتابات إسلامية للغزالى وقطب وتعرّفي إلى شخصيات إسلامية أيضاً،
فبدأنا مرحلة الدراسة المُكثّفة داخل الفكر الإسلامي. وشكل العام 1968 بداية مرحلة
الانتقال من التصوّرات الوطنية العلمانية إلى تصوّرات إسلامية جديدة ومختلفة “.
أما
كيف بدأ تبلور تلك الأفكار في تنظيم؟ فيقول الشُقاقي “كانت لقاءاتنا شبه يومية في
المجموعة الناصرية القديمة على خلفية الأفكار الرومانسية، لمناقشة الشأن الوطني
العام، وعندما بدأت أتعرّف إلى الكتب الإسلامية في النصف الأوّل من عام 1968، شهد
بيتى جدلاً مهماً مع أفراد المجموعة حول كيفية الخروج من الفكر الوطني إلى الإسلام،
واستمرّ طويلاً ولم يُحسم في ليلة وضحاها “.
"كنا
نناقش الأفكار بتفصيلية وبقوة ووضوح، وكل ما قرأنا أكثر عن الإسلام، يزداد نقدنا
للأصول في مجموعتنا، إلى أن وصلت إلى قناعة تقتضي تغيّر المسلك، وأعلنت أمام
الأخوة قناعتي التامة بالفكر الإسلامي، فمَن أراد أن يتبعني فإننا سنبدأ من اليوم
برنامجاً جديداً في الدراسة والحياة .
الحلقة
القديمة دخلت في إطار جديد، بعد اقتناعنا به، وانتقلنا إلى التفاصيل وكرّسنا
لقاءاتنا في بيتي “في غزّة “نقرأ فصولاً من كتب لمناقشتها ونُصلّي معاً “.
ويؤكّد
الشُقاقي أنه في تلك المرحلة حاول أن يصنع من التجمّع تنظيماً، فتعرّف على الشيخ
أحمد ياسين “زعيم حماس الراحل “وكان وقتها مُدرّساً ورجلاً أقوى “جسدياً “مما كان
عليه لاحقاً، والذي استطاع وقتها إعادة تأسيس حركة الإخوان في غزّة، وبدأ الشُقاقي
يتبادل الزيارات معه، ويتعرّف أكثر على فكر الإخوان المسلمين إلا أنه لم يندمج كليّة
معهم، وإن تأثّر بهم .
المحطة
الثالثة والهامّة في حياة الشهيد المُعلّم، يمكن التأريخ لها بنفس العام – عام
1968 – حيث التحق الشُقاقي بجامعة بيرزيت للدراسة إثر منحة قدّمتها ألمانيا
الغربية للطلاب الفلسطينيين وقتها، وتعرّف فيها على عالم جديد، وكانت الأفكار
اليسارية على أشدّها داخل الجامعة إلى حدّ يتخوّف فيه المسلمون من إظهار إسلامهم.
يقول
الشُقاقي “كل ما كنت أقرأه وأدرسه وأناقشه في بيرزيت يتناول أفكاراً أكثر تعقيداً،
مما جعلنى أبحث عن إجابات لأسئلة أكثر تعقيداً، وأفادتنى دراستي كثيراً في تعميق
الأفكار، خلال وجودي سنتين فى أجواء مُعادية للإسلام، ثم توجّهت إلى القدس لأعمل مُدرّساً
فيها (كان مُدرّساً لمادة الرياضيات)، لكن اللقاءات كانت محدودة، وإرسال الرسائل
عبر الآخرين، و" تعاملت في القدس مع بعض الأطراف والقوى الوطنية، مع أن
الحساسية كانت كبيرة بين الحركات، وشاركت في بعض النشاطات لدى مؤسّسات وطنية
ويسارية، ثم انتقلت إلى مصر العام 1974 “.
وجدير
بالذكر أن الشُقاقي أثناء عمله بالتدريس درس الثانوية من جديد، وحصل على الشهادة
الثانوية بتفوّق أهلَّه للحصول على منحة للدراسة في كلية الطب في جامعة الزقازيق .
المحطة
الرابعة: وهي التي تبدأ بدخول الشهيد إلى مصر عام 1974 وتمتد إلى رحيله عنها عام
1981، وهى في تقديرنا من أخصب وأخطر المحطّات والمراحل السياسية والفكرية في حياة
الشُقاقي، وعلى كافة المستويات هكذا قال لنا في آخر أيامه عندما كنا في طرابلس في ليبيا؛
وهكذا أيضاً تؤكّد الوقائع والأحداث التي عاشها في تلك الفترة، فلقد جاء الشُقاقي
ليدرس الطب في جامعة الزقازيق، فتخرّج من الجامعة طبيباً للأطفال (استمرّ لمدة عام
طبيبَ امتياز في مستشفى كفر صقر في محافظة الشرقية)، وخرج من مصر بتنظيم للجهاد
الإسلامي، وبعدّة شهور من الاعتقال في سجن القلعة، وبتأثير بالغ على عقول
الإسلاميين الشباب في مصر، الذين اغتالوا السادات في ما بعد، وبعشرات الدراسات
والأبحاث والمقالات والأشعار (بأسماء مُستعارة لعلّ أشهرها: عزالدين الفارس الذي
كان يوقّع به أبحاثه في مجلّة المختار الإسلامي) .
لقد
كانت (محطّة مصر) في حياة الشُقاقى أخصَب المحطّات وأبرزها .
بدأ
تأثير الشُقاقي في هذه المرحلة واضحاً على الشباب الفلسطينى القادم للدراسة، (كان
رفيقه في هذه المرحلة د. موسى أبو مرزوق مسؤول المكتب السياسي لاحقاً في حركة
حماس) والقيادي الحمساوي د. إبراهيم مقادمة – والشيخ عبد العزيز عودة، والدكتور
رمضان عبد الله شلح الأمين الحالى لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ونافذ عزّام
القيادي الجهادي البارز في قطاع غزّة، والشيخ عبدالله الشامي ود. محمّد الهندي، وعشرات
الشباب الذين أثّر وتأثّر بهم الشهيد، وكان للحوار الواسع والخلاف أيضاً بين اتّجاه
(الجهاد الإسلامي) واتّجاه (الإخوان المسلمين) سواء بين الفلسطينيين أو المصريين
في تلك الفترة، بصماته الواضحة على فكر الشُقاقي وفلسفته التي حسمت الأمر في
النهاية (تحديداً عام 1978) لصالح فكر الجهاد، والذي أدّى إلى إنشاء (نواة تنظيم
الجهاد الفلسطيني) عام 1980، من داخل الشباب الفلسطيني الإسلامي في جامعة الزقازيق
وجامعات مصر (حوالى 60 كادراً سياسياً منظماً)، وانتقلت هذه النواة إلى قلب فلسطين،
لتُشكّل نقطة البداية لتنظيم الجهاد الإسلامي داخل فلسطين .
ومما
يُذكر في (مرحلة مصر) تلك قيام الدكتور فتحي الشُقاقي بعمل مجلاّت حائط في جامعة
الزقازيق، رداً على مجلاّت الحائط للشيوعيين الذين أصدروا مجلّتهم بعنوان (الجياد)،
فجاءت مجلّة الشقاقي ورفاقه بعنوان (الفرسان)، ويُذكر أيضاً للشُقاقي أنه أصدر في
هذه الفترة وتحديداً يوم (16/2/1979) كتاب (الخميني: الحل الإسلامي والبديل)، والذى
يُعدّ أول كتاب صدر باللغة العربية – في العالم أجمع – عن انتصار الثورة الإسلامية
في إيران. ونفذت طبعته الأولى (عشرة آلاف نسخة) فور صدورها بأيام وسُجِنَ الشُقاقي
بسببه أربعة أيام، ثم أعيد اعتقاله فى 20/7/1979 في سجن القلعة – للشكّ في نشاطه
السياسي الإسلامي – واستمر سجنه لمدة أربعة أشهر، وجدير بالذكر أن الذي حقّق معه
في تلك الفترة هو اللواء المعروف فؤاد علاّم ولكنه لم ينجح في الحصول على أي
اعتراف من الشهيد وغادر مصر بطريقة درامية مثل الأفلام (يوم 1/11/1981) لأنه كان
مطلوباً للاعتقال بعد اغتيال السادات وفي فلسطين بدأت مرحلة ومحطّة جديدة وهامّة
في حياة الشهيد .
المحطة
الخامسة: فور عودة الشُقاقي إلى فلسطين، شَرَعَ في نشر خلايا تنظيم الجهاد الإسلامي
في أنحاء فلسطين المُحتلة، وتحديداً في غزّة والضفة الغربية وفي تجنيد وتربية
كوادر جديدة للحركة، وبدأ في بناء قوتها العسكرية والعقائدية بقوة وصلابة، ولفتت
أنشطته انتباه سلطات الاحتلال الصهيونى، وكان وقتها يعمل في مستشفى فيكتوريا في القدس،
وتم سجنه عام 1983 لمدة 11 شهراً بتهمة تشكيل تنظيم للجهاد الإسلامي، وفي عام 1986
حُكِم عليه بالسجن الفعلي لمدة 4 سنوات، و5 سنوات أخرى مع وقف التنفيذ بتهمة
التحريض ضدّ الاحتلال الإسرائيلى، ونقل الأسلحة إلى القطاع والانتماء إلى حركة
الجهاد الإسلامي، وقبيل انقضاء فترة سجنه، قامت السلطات الإسرائيلية بإبعاده من
السجن مباشرة إلى خارج فلسطين المُحتلة في تاريخ 1/8/1988 إلى جنوب لبنان .
وجدير
بالذكر أن اسحق رابين وزير الدفاع في الكيان الصهيوني وقتها، هو الذي أصدر بنفسه
هذا القرار، وفي تلك الفترة التي سُجِنَ فيها الشهيد، تحديداً في بدايتها بدأت
أقوى العمليات المُسلّحة والنوعية الكبرى لحركة الجهاد الإسلامي، حيث كانت عملية (باب
المغاربة) في تاريخ 15/10/1986 والتي قام أعضاء الجهاد الإسلامي خلالها بإلقاء
ثلاث قنابل يدوية على مجنّدين من لواء جيفعاني الإسرائيلي، أثناء احتفال بالقرب من
حائط المبكى، حيث جُرِح حوالى 70 من المُجنّدين وقُتِلَ أب أحد المُجنّدين، والشبان
الثلاثة الذين قاموا بالعملية من تلاميذ (الشُقاقي) وهم طارق الحليس وعبد الناصر
الحليس وإبراهيم حسن عليان. وفي نفس الفترة التي سُجِنَ فيها الشُقاقي، تم هروب 6
من أعضاء الجهاد بنجاح من سجن غزّة المركزي، وتمت عملية عسكرية قُتِلَ فيها
الكابتن رون تال قائد الشرطة العسكرية في قطاع غزّة في 2/8/1987، والمواجهة التى
وقعت بين أربعة من أعضاء الجهاد مع قوات الأمن الإسرائيلية في حي الشجاعية في مدينة
غزّة في 6/10/1987، وأدّت إلى مقتل ضابط أمن إسرائيلى بالإضافة إلى استشهاد أعضاء
الجهاد الأربعة، ومحاولة تفجير سيارة ملغومة في سبتمبر (أيلول) 1987. فضلاً عن
عشرات العمليات الناجحة التي استهدفت العسكريين الصهاينة بالأساس.
كل
هذه الأحداث، والشُقاقي في سجون الاحتلال، حيث كان يُدير الحرب مع الاحتلال مباشرة
أو من خلال تلامذته، الأمر الذي أكّد أن كل بُنية تنظيم الجهاد العسكرية
والعقائدية كانت قد تأسّست وبقوة، قبل دخول الشُقاقي السجن (عام 1986) بل إن المُحلّلين
المحايدين يؤكّدون أن الأعمال المُسلّحة لحركة الجهاد قبل اندلاع الانتفاضة
الفلسطينية في ديسمبر 1987، كانت السبب الرئيسي والمباشر في إشعال الانتفاضة، في
تلك الأثناء أيضاً تزوّج الشهيد من السيّدة المجاهِدة (فتحية الخيّاط) وأنجب ثلاثة
أبناء (كلهم ولدوا خارج فلسطين وتحديداً في دمشق بعد ترحيله) والأبناء هم: “خولة
وإبراهيم وأسامة" وبالمناسبة (خولة) الآن تعيش داخل فلسطين بعد أن تزوّجت
وأنجبت أحفاداً للشُقاقي الشهيد .
المحطة
السادسة: وهي المحطّة التى تلت ترحيل الشُقاقي إلى جنوب لبنان يوم 1/8/1988 وانتهت
باستشهاده يوم 26/10/1995 أمام فندق الدبلوماسي في حي سليمة في جزيرة مالطا، في
الواحدة ظهر يوم الخميس، عندما كان عائداً إلى مقر إقامته المؤقّت في دمشق من
رحلته إلى ليبيا (استمرّت الرحلة أكثر من 15 يوماً) وكانت بهدف الحوار مع القيادة
الليبية بشأن قضية عودة الفلسطينيين الموجودين في ليبيا إلى فلسطين.
تلك
المحطّة يمكننا أن نُطلق عليها (مرحلة الغربة) ففيها تنقّل الشهيد بين العديد من
العواصم العربية والإسلامية، وفيها نضجت حركته السياسية ورؤيته الحضارية أكثر، وتبلورت
فيها القضايا وتحدّدت الخنادق، واشتدّ فيها ساعد حركة الجهاد الإسلامي، وتفجّرت
طاقاتها الفذّة في قلب الكيان الصهيونى، وسقط عشرات القتلى من الصهاينة إثر العمليات
الاستشهادية النوعية المُتميّزة لحركة الجهاد، وعبرت الحركة مسالك جديدة للفعل المُسلّح،
وطعنت نظريات الأمن الصهيوني في قلبها (يُقال أن عملية بيت ليد الاستشهادية والتي
قُتِل فيها أكثر من 20 عسكرياً صهيونياً وجرح 108 منهم) .. باتت تُدرّس في معاهد
العدو العسكرية للتدليل على حجم الخطر القتالي الذي تُمثّله حركة الجهاد على
مستقبل الوجود الصهيونى بأكمله وعلى نظرية الأمن القومي الإسرائيلى، وفي مرحلة الغُربة
تلك فتح الشُقاقي قلبه وعقله للقوى العربية والإسلامية المجاهدة، وجعل بوصلته
الثابتة التي يقيس بها كل علاقاته وتحالفاته وصداقاته وعداواته (إن وجِدَت لأنه
كان محبوباً ومُقدّراً من الجميع !! وأنا شاهد عيان على ذلك في أكثر من موقف أو
مناسبة) هي القدس وفلسطين. من هنا تقارَب وتقاطَع سلوك وفكر الشُقاقي مع إيران
الثورة، والمقاومة الإسلامية في لبنان وحزب الله، وحركة حماس بعد أن حملت السلاح، وليبيا
والسودان، ومع المُلتقيات القومية والإسلامية واليسارية التي تستهدف عودة فلسطين، من
البحر إلى النهر، وكان الشُقاقي في كل تحرّكاته خلال هذه المرحلة مثالاً للمُجاهد
الرِسالى المُخلِص لقضيته ولأمته، وكان دائماً يُردّد أنه لا يخشى الموت، (ونعم
الحارس الأجل) و(أنه قد عاش أكثر مما ينبغى) و(أنه يحب الموت كما يحب الصهاينة
الحياة).
اليوم
(2016) وفي ذكرى استشهاده الـ21 تأتى المُبادرات لحل القضية من (مقاومين) ومن
استسلاميين، ويأتي إرهابُ التنظيمات التي تدّعي وصلاً بالإسلام (داعش والقاعدة وأخواتهما)
وتنحرف البوصلة رويداً رويداً بعيداً عن فلسطين التي أحبها الشُقاقي وبذل دمه من
أجلها، وإذا جاز لنا أن نتخيّل اليوم ماذا لو كان الشُقاقي بيننا.. ماذا كان سيقول
أو سيفعل من أجل فلسطين؟ اعتقد بحكم
معرفتى بالرجل، وبفلسطين، أنه كان سيقول كلاماً مختلفاً عما هو رائج الآن حتى لدى
مَن ينتسبون إلى معسكر المقاومة، أزعم أنه كان سيقول بحزم ومن دون إمساك العصا من
المُنتصف ومن دون مبادرات لا طائل منها، أن “كل ما عدا المقاومة المُتّجهة ناحية
الأقصى.. باطل"؛ سواء كانت (سلطة فلسطينية) أو حركات إسلامية فلسطينية مقاومة،
أو حركات إرهابية تنسب نفسها زيفاً للإسلام .. كل هؤلاء باطل.. والحق والصحيح فقط
هو مَن يتّجه ببندقيته وبقلبه وبروحه ناحية فلسطين، فهى المقياس الصحيح لمدى
إسلاميّة المُسلم وعروبة العربى، وصدق المجاهدين ..
رحم
الله أبا إبراهيم.. وأعزّ مَن لا يزالُ يعتزّ بطريقه، ويمضي عليه.. طريق ذات الشـوكة!
كما كان يُحب أن يترنّم به وبالآية الكريمة في سورة الأنفال: “وإذْ يَعِدُكُمُ
اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ويُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ
ويَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ" صَدَقَ اللهُ العظيم.