عقيدة روسية أم مبادئ أممية؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يؤكد في خطابه السنوي أمام البرلمان الروسي على أنّ محاربة الإرهاب يجب أن تكون عبر إنشاء تحالف دولي واسع، ويدلّل على العمل الفعلي الذي قامت به روسيا في هذا الصّدد على الأرض السورية؛ الكلام الذي يتضمن بين أسطره تنويهاً عن عدم قيام الآخرين بجهد مماثل، رغم ادعاءاتهم وكثرة أحاديثهم عن محاربة الإرهاب.
وفي الوقت نفسه، فإنّ الخطاب هو تعبير عن صحوة روسية واثقة، ورؤية استراتيجية لمستقبل القوة الروسية، وسياسة عملية للعقود القادمة أيضاً. لقد كان هذا الخطاب منهاج عمل على المستوى الداخلي والدولي، وحزمة أفكار ومبادئ للأسس التي يجب أن يُبنى عليها عالم متعدّد الأقطاب، ولذلك فقد أتى الخطاب هادئاً، تفصيلياً، رؤوياً، متسامحاً، باسطاً ذراعيه لكلّ من يريد أن يكون عضواً فعالاً في هذه المسيرة السلمية الدولية، خالياً من لغة التعالي والتهديد والوعيد التي تتّسم بها خطابات الرؤساء الأمريكيين والغربيين عموماً. ولكنّ الخطاب كان خالياً من أيّ ضعف أو استكانة للتعنّت الغربي، بينما تظهر فراغات سطوره وأحرف كلماته عن أنّ الرغبة في التعاون الدولي ناجمة عن قوّة ومحبّة للسلم، إذ يقول: "إذا ما قرّر أحد ألّا يشاركنا هذا النهج أو أن يجرّبنا بطريقة مغايرة، فإنّ ردود فعلنا ستكون مختلفة جداً، وسيكون هذا أمراً كارثياً"، وأضاف "إنّ هذا ما يجب أن يكون ماثلاً أمام أنظار الآخرين وألّا ينسوه ولو للحظة واحدة". لقد تبنّى الخطاب مبدأ الشفافية في الداخل والخارج، ومبدأ التشاركية مع الشعب الروسي على المستوى الداخلي، ومع كافة الدول الراغبة في ذلك على المستوى الخارجي، وذلك من منطلق الندّية بين الدول، صغيرها وكبيرها. وبعيداً عن مبدأ "الاستثنائية"، الذي يتحدث به الرؤساء الأميركيون، والذي مثّل الخطاب تقويضاً له واستنكاراً لنتائجه الكارثية على مستوى العالم، ومع أنه أقرّ أن "لا بديل للأمم المتحدة كمركز لتنظيم العلاقات الدولية، وتنسيق السياسة"، إلا أنه عبّر عن رغبة روسيا بإصلاح النظام العالمي وتعزيز الحوار والشراكة والتعاون المستقرّ بين الدول، واعتبر أنّ روسيا والولايات المتحدة مسؤولتان عن الأمن الدولي، وأنّ روسيا تقيم علاقات تعاون مع الصين واليابان والهند ودول البريكس، ومستعدة لتعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة، ولكن على أساس الندّية وبعيداً عن الابتزاز أو تعميم النموذج الأمريكي خارج أراضي الولايات المتحدة وبتجاوز فاضح للقانون الدولي. ومن هنا، فإن الديمقراطية التي تحدّث عنها فلاديمير بوتين هي الديمقراطية المعتمدة على سيادة الدول، وعدم السماح بالتدخل بالشؤون الداخلية للدول، وهي الديمقراطية المعتمدة على حضارة وثقافة وخصوصية هويات الدول المستقلّة، بعيداً عن الاستثنائية الأميركية، والهيمنة الغربية، ومحاولة فرض الأنموذج الديمقراطي الغربي على الدول الأخرى. أي أنّ الخطاب قدّم بديلاً لكلّ الدول العاملة على تعزيز سيادتها واستقرارها؛ قدّم بديلاً عن الأنموذج الاستعماري، الذي درج منذ الحرب العالمية الثانية على استعمار الدول الأخرى من جديد، والاستيطان على أراضيها، وإنهاكها اقتصادياً، إما بذريعة عدم وجود شعب على الأرض، أو بحجة نقل الحضارة وحقوق الإنسان والديمقراطية إلى بلدان يعتقد الغرب أنها أقلّ تطوراً وحضارة، فقط لأنها لا تشبهه أو لا تسير على خطاه. ومن هذا المنظور المحدّد، اعتبر بوتين عمل روسيا على تعزيز الشرعية الدولية أمراً أولوياً، أي أنه تحدّث عن شرعية دولية حقيقية ناجمة عن الحوار والتفاهم واحترام سيادة الدول، وعدم مصادرة رأيها في السياسة، أو الإعلام، والمساواة في العلاقات الاقتصادية والتجارية بعيداً عن الاحتكار الغربي لقوانين التجارة الحرّة، والتي استخدمها الغرب لتحقيق مصلحة الدول الغربية فقط، بغضّ النظر عن المصالح المشتركة للدول كافة ولشعوبها. كما أكّد بوتين على أنّ محاربة الإرهاب يجب أن تكون عبر إنشاء تحالف دولي واسع، ودلّل على العمل الفعلي الذي قامت به روسيا في هذا الصّدد على الأرض السورية؛ الكلام الذي يتضمن بين أسطره تنويهاً عن عدم قيام الآخرين بجهد مماثل، رغم ادعاءاتهم وكثرة أحاديثهم عن محاربة الإرهاب. وفي الدروس المستفادة، أشار بوتين إلى أنّ روسيا قد حوّلت الأزمة التي حاول الآخرون اختلاقها إلى فرصة لتطوير المنتجات الزراعية، وقد نجحت نجاحاً باهراً، بحيث فاقت الصادرات الزراعية قيمة الصادرات العسكرية، وفي هذا درس مستفاد هام جداً للدول قاطبة؛ أنّ إرادة الشعوب تتفوّق دائماً على محاولات الطغيان والتهديد والابتزاز، لا بل إنّ هذه الإرادة قادرة على تحويل أية صعوبة أو كارثة مفروضة من الخارج إلى قصة نجاح داخلي إذا ما توافرت الإرادة والعزيمة والنيّة الصادقة والإجراءات والسياسات الرشيدة والمحكمة لفعل ذلك. كما كان الفيتو المزدوج الأول الذي اتخذته روسيا والصين في مجلس الأمن في 4/10/2011 في وجه القوى الغربية التي حاولت شنّ الحرب الإرهابية على سوريا مباشرة بغطاء دولي، كما فعلت في العراق وليبيا وقبلهما ضدّ يوغسلافيا السابقة، كما كان ذلك الفيتو المؤشر الأول لانكسار هيمنة القطب الواحد على العالم، فإنّ خطاب الاتحاد الفيدرالي للرئيس بوتين في 1/12/2016 هو إعلان أكيد وصريح للولادة الرسمية لعالم متعدد القطبية على المستويات السياسية والاقتصادية والتجارية والإعلامية والعسكرية، وأولاً وأخيراً وقبل كلّ شيء، على المستوى الأخلاقي والاجتماعي واحترام سيادة الدول وإرادة الشعوب. لقد فتح بوتين الباب على مصراعيه كي تقوم كلّ أمة أو دولة بوضع العقيدة الخاصة بها على أساس الندّية والتكافؤ والاحترام المتبادل والقانون الدولي، وعلى أساس الصدق والشفافية والمكاشفة الجريئة. خطاب بوتين هو إعلان بداية زوال عالم "الإستثنائية والهيمنة" وشروق فجر إرادة الشعوب الحرّة والعزيزة. فهل تبدأ الدول والأمم بكتابة عقيدتها، كلّ بما يتناسب مع هويتها وحضارة وطموحات مجتمعها وشعبها؟ وهل سيباشر شعب لغة الضاد بفعل ذلك؟