كورونا.. العولمة والقرية الكونية

ضرب كورونا عمق القاعدة الفولاذية، والهيكل الفكري والسياسي والاقتصادي والمالي للقرية العالمية، بطريقة تستغرق الكثير للعودة إلى وضعها الأصلي.

  • كورونا.. العولمة والقرية الكونية
    بعد مضي أكثر من 3 أشهر على انتشار الفيروس، لم يكن بوسع أحد أن يتخيَّل أن عواقبه الجَمّة ستكون سريعة وساحقة

منذ الأيام الأولى لوصول الضيف غير المرغوب فيه، غردتُ بأن "تبعات جائحة كورونا العالمية وعدم قدرة العالم على إدارتها ستستمرّ، مع عواقب وخيمة على الاقتصاد والعلوم والثقافة والبيئة وأسلوب الحياة، وحتى مستقبل الفكر البشري"، وواصلت القول إنّ "كوكبنا سيكون مختلفاً بشكل واضح ما قبل وبعد كورونا."

 ولكن اليوم، بعد مضي أكثر من 3 أشهر على انتشار الفيروس، لم يكن بوسع أحد أن يتخيَّل أن عواقبه الجَمّة ستكون سريعة وساحقة، إلى درجة أن العالم الغربي المليء بالمطالبات سوف يكون عرضةً له بشكلٍ ساحقٍ إلى هذا الحدّ! 

لقد اكتشف كلٌّ من المُنظّرين والباحثين هذه الظاهرة من زاوية، ولكن المهم هو تأثير كورونا في النظام النيوليبرالي وعولمته وتمزّق القناع عن الوجه الحقيقي لهذه المدرسة الفكرية، وما يُسمّى بالنظام الدولي الحديث، والقرية الكونية المعبّر عنها بمصطلح العولمة.

 أكثر من أيّ شيء آخر، تمكَّن كورونا من ضرب ما يسمّى الحضارة الناشئة والحديثة، واستهدافها بدقةٍ وقوة استثنائية وذكاء هائل وإبداع مبتكر. أعاد هذا الحدث إلى السطح نظريات "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لفرانسيس فوكوياما و"صراع الحضارات" الذي ألقاه صموئيل هنتنغتون، وهو نظرة غربية استعلائية علی البشرية جمعاء، ونتيجة لانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، والشغف الذي حصل بعد ذلك. 

لقد شوّه مفاهيم مثل الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والتكنولوجيا المتفوقة التي بَنى الغرب ادعاءاته عليها، وكشف المفاهيم غير الواقعية لهذه المدارس ورؤيتها الخادعة للإنسان، وعرّاها بشكل مخزٍ جداً.

ضرب كورونا عمق القاعدة الفولاذية علی ما يبدو، والهيكل الفكري والسياسي والاقتصادي والمالي للقرية العالمية، بطريقة تستغرق الكثير للعودة إلى وضعها الأصلي.

 كشفت حرب كورونا العالمية عن ضعف نظام العولمة والاحتكار النيوليبرالي والمؤسسات التابعة له في المجالات كافة، ومنها الصحة والعلاج والخدمات، وفضحت أخلاقياتها ووحشيّتها وعدم تقيّد وكلائها في مختلف الأبعاد، ودرجة الحقد التاريخي والخبث والعنصرية وتفوقها على نظرائها.

وقد استطاعت الكشف عن مدی الفراغ في الهياكل والمنظمات والمؤسسات الرسمية الدولية الرفيعة المستوى وتمزيق القناع عن وجوههم الزائفة.

 أظهر هذا الوباء وجود مرضٍ متجذّرٍ في النسيج العقلي وخللٍ عميقٍ في النظام الرأسمالي اللاإنساني، وهو أكثر خطورة ورعباً بكثير من فيروس كورونا نفسه. على غرار قطيع من الأغنام وضَعه الغربيون في جدول أعمالهم لمرضى القلب المصابين بكورونا، ولكي ينتشر الفيروس إلى معظم الناس في المجتمع، ويتم إرسال المسنين الذين لا يستطيعون دفع تكاليف العلاج، والذين يعتبرون عبئاً على المجتمع، إلى القبور، حتی يبقی الأصغر سناً والأكثر قدرة على قيد الحياة، وينجو من المرض، ويحصل لديهم المناعة، لكي يكونوا قادرين على تحريك العجلة الاقتصادية الرأسمالية، فماذا يعني هذا؟ غير أنه يكون قانون الغابات وقانوناً ضد البشرية في صراع البقاء الحديث من وجهة نظر داروين؟ وهو معروض أيضاً بأبشع صوَره اليوم. 

كما أظهر الوباء الداروينية الاجتماعية الحديثة التي تُذكّرنا بإيديولوجية هتلر العنصرية، وقتله المتخلفين عقلياً، وإبادته الطبقات الاجتماعية وغير المنتجة في المجتمع بوحشية. هذه المشاهد تذكّرنا بالسياسات التي يُسمّيها فوكو "إدارة الموت"؛ المشاهد التي تستعرض أمام أعيننا كل يوم، ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه بأقبح وجه.

أظهر كورونا أن العالم أصغر من قرية بكثير، وبطبيعة الحال، أكثر ضعفاً مما كان يُعتقد سابقاً. إذا كان كورونا إرهاباً بيولوجياً للدولة، فإن آثاره العالمية الضارة ستمنع مثل هذه الحروب في المستقبل، بمعنى آخر، سوف يكون نوعاً من الترياق. 

وفي مواجهة هذا المرض المنتشر وعدم القدرة على محاربته بشكل مستمر، يجب أن تكون هناك عودة جادة إلى الفلاسفة، من أجل أن تستعيد الكتب حكمتها ورزانتها، وأن تتخلّص من الحجر الصحي في كهوفها الحديثة، باسكال وفلسفته الروحية عن القدرة المحدودة للعقل بالمقارنة مع اتساع مساحة الإيمان وانتشاره أيضاً. نعم فعلاً! يجب العودة إلى الفلاسفة الوجوديين، مثل سورين كيركيغارد، الذين رأوا العقل أقل شأناً من الإيمان، ودعوا إلى "القفزة الإيمانية"؛ الإيمان الذي لم يستطع العقل التغلب عليه أبداً.

 إنّ ما يحدث اليوم هو النتيجة الطبيعية للعولمة والنظام الرأسمالي المتمرد والحداثة، والتي تفتقر إلى القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية. لا تزال كورونا في مهدها، والآن تمت إزالة أقنعة النفاق عن مؤسسي الحداثة الجامحة ومديريها واحداً تلو الآخر، وتم عرض وجوههم الحقيقية والمُرعبة. 

يبدو أننا في خضم ولادة عالم جديد. هذا العالم ليس عالم "رعاة البقر" الذي يفرض إرادته على الآخرين بإطلاق النار، ولا العالم الذي تمتلك فيه القوى المهيمنة السيطرة وحدها، ولا العالم الذي يمكن فيه إنكار التراث الإنساني. هذا "العالم الجديد" هو نتاج حرب صعبة وغير متكافئة مع عدو مجهول سيضرب من دون أن يُرى، وسيجبر "إمبراطورية الهيمنة" وقريتها الكونية على الاستسلام.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى الإيمان الرومانسي لهذه المجموعة من الفلاسفة، مثل كيركيغارد، وبيركسون، وشلايرماخر، الذين اعتقدوا أنّ الحياة البشرية فارغة في غياب الإيمان. ما معنى وأهمية الحياة التي يعبدها العقل ولا يميل إلا إلى العلم ولا يری للروح دوراً في اكتشاف سر الوجود؟! يجب علی المفكرين أن ينهضوا بوجه عبثية ما يحدث، بناء علی فلسفة ميشيل فوكو حول تفوّق "الحرية" على "الصحّة"؛ الحرية التي ارتكب الغرب ما ارتكب من جرائم باسمها، أو حرباً مدمرة فرضتها على الأمم، أو أراقت دماءً وجرت أنهار منها! 

السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم هو: ما قيمة الحرية وما تأتي بها ومفهومها، عندما يتم دفع أفواج الناس إلى حُفر المقابر، أو يتركون في جانب الأرصفة والشوارع في واشنطن وروما وباريس ليموتوا، وهم محرومون من الحد الأدنى من الخدمات الصحية والعلاجية، والكرامة الإنسانية أيضاً؟!

إنّ ما يحدث اليوم هو النتيجة الطبيعية للعولمة والنظام الرأسمالي المتمرد والحداثة، التي تفتقر إلى القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية. لا تزال كورونا في مهدها، والآن تمت إزالة أقنعة النفاق عن مؤسّسي الحداثة الجامحة ومديريها، واحدة تلو الأخرى، وتم عرض وجوههم الحقيقية والمُرعبة.

يبدو أننا في خضم ولادة عالم جديد. هذا العالم ليس عالم "رعاة البقر" الذي يفرض إرادته على الآخرين بإطلاق النار، ولا العالم الذي تمتلك فيه القوى المهيمنة السيطرة وحدها، ولا العالم الذي يمكن فيه إنكار التراث الإنساني. هذا "العالم الجديد" هو نتاج حرب صعبة وغير متكافئة مع عدو مجهول سيضرب من دون أن يُرى، وسيجبر "إمبراطورية الهيمنة" وقريتها الكونية على الاستسلام.

اليوم أكثر من أيّ وقت مضی، نحتاج إلی الإيمان بالقرية الآمنة التي أشار القرآن الكريم إليها: {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ}، ولا نكون من الذين كفروا بأنعم الله، كما عبّر عنهم القرآن: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.

أعلنت منظمة الصحة العالمية في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019 تسجيل إصابات بمرض الالتهاب الرئوي (كورونا) في مدينة ووهان الصينية، ولاحقاً بدأ الفيروس باجتياح البلاد مع تسجيل حالات عدة في دول أخرى حول العالم.