سقوط الحُلمَين التركي والكردي في سوريا
ممّا لاشكّ فيه أنّ عملية إردوغان ستُسرِّع في معالجة الواقع العربي المُزري وتُعيد الزُخم للغة الحوار والإلتقاء أقلّه في البُعد المصلحي والإنتقال من حال الإشتباك إلى حال التشبيك.
حتى يومٍ مضى كنّا نُطلِق على ميليشيا "قَسَد" مُسمَّى الإنفصاليين الكُرْد لما يحمله مشروعهم من مخاطر عليهم أولاً وعلى سوريا والمنطقة ثانياً.
فهذه الميليشيا على الرّغم من مُحاربتها لتنظيم "داعش" الإرهابي وهو أمر يُحسَبُ لها إلاّ أنّها كانت مع كلِّ تحريرٍ للأرض تندفع أكثر بإتجاه إعلان الإنفصال، ولم يكن أبداً تحريرها للأرض نابعاً من قيامها بواجبها لإعادة السيادة على الأرض التي تُحرّرِها إلى كَنَفِ الدّولة السوريّة، ولهذا كان استقواء هذه الفصائل بالقوات الأميركية أمراً قائماً على حسابات ترتبط بالحُلم القاتِل لفئةٍ من الكرد ومن ضمنهم كرد سوريا الذين أعلنوا عن إنشاء إقليم "روج آفا" وهو يعني "كردستان الغربية".
وقاموا بعدها باتّخاذ كافة الإجراءات التي تُثبِّت معالِم هذا الإقليم من خلال إلغاء دور الدولة المركزية، إلاّ في المُرّبع الذي يضُّم إدارات الدولة السورية ضمن مدينة الحسكة وفي أجزاء من مدينة القامشلي ومن ضمنها المطار الذي كان وسيلة التواصُل الأساسية مع دمشق.
بالمُقابل لم تترك الدولة السورية باباً إلاّ وفتحته للوصول إلى تفاهُمٍ مع الإنفصاليين الكرد، لكنّهم رفعوا سقف مطالبهم بما يقوِّض وحدة سوريا وسيادتها حيث تمسَّكوا بمجموعةٍ من المطالب اعتبروها غير قابِلة للبحث وهي:
- حُكم ذاتي على غِرار اقليم كردستان العراق .
- رَفْع العَلَم الكردي إلى جانب العَلَم السوري بنفس المستوى .
- تحديد حصَّة من الثروات للكرد على غِرار حصَّتهم في إقليم كردستان العراق .
- أن تكون الحدود السورية- التركية تحت سيطرتهم .
- عدم التعاطي بالأمن الداخلي وتوكيل المهمّة إلى قوات الأسايش الكردية .
- أن يكون للكرد تمثيل برلماني في مجلس الشعب السوري عدا نوابهم في البرلمان الخاص بهم.
- أن يمتاز الكرد بسياسةٍ خارجيةٍ مُستقلّةٍ عن سياسة الدولة السورية .
إضافة إلى هذه العناوين الأساسية عَمَدت الفصائل الكردية إلى التدخّل في مناهِج التدريس وتغيير لوحات السيارات ومسائل تفصيلية كثيرة لتغيير معالِم الديموغرافيا عبر الضغط على السكان من غير الكُرْد.
أمّا بالنسبة إلى الأتراك فليس خافياً أنّهم أيضاً كانوا وما زالوا يعانون من العيش في الحُلم القائم على إعادة إحياء الخلافة الإسلامية بصيغتها العثمانية، ولتأكيد ذلك يكفي أن نورِد بعضاً ممّا فعله الأتراك في سوريا:
- فَتْح الحدود لمرور الجماعات الإرهابية التي كانت تُدار من قِبَل الإستخبارات العسكرية التركية ولا تزال، وهو ما يُستدّلُ عليه من أسماء الألوية والكتائب التي أنشأتها المخابرات التركية والتي تحمل أسماء إسلامية أغلبها من مرحلة الحقبة العثمانية.
- ترويج إردوغان منذ بداية الحرب على سوريا أنّه سيُصّلي في الجامع الأموي في دمشق فاتِحاً وإماماً وهو ما لم يتحقّق حتى في حلب حين تراجع إردوغان بسبب انتصارات الجيش العربي السوري ليُعلن أنّه سيُصّلي في الجامع الأموي في حلب لتصل به الأمور أنّه بات عاجزاً عن الصلاة في إسطنبول بسبب الهزائم التي تلحق به تباعاً.
- وجود تقليد تركي باعتماد ليرة تركية واحدة لولاية حلب وليرة تركية واحدة لولاية الموصل عند إقرار الموازنة التركية، وفي ذلك دلالة رمزية على اعتبار المنطقتين جزءاً من تركيا.
- العمل بعد عمليتيّ "درع الفرات" و"غصن الزيتون" على تتريك المناطق المحتلّة عبر العديد من الإجراءات، منها على سبيل المِثال لا الحَصْر كتابة لوحات الطُرُق باللغتين العربية والتركية وافتتاح مقار لشركات الإتصال التركية وإقامة أبراج اتصالات، إضافة إلى إقامة وإصلاح المدارس والمستشفيات ورَفْع لافتات تركية عليها، وتغيير المناهج المدرسية وغير ذلك ممّا يساعد على المدى المتوسّط والبعيد في نَشْرِ التتريك.
- إنشاء "الجبهة الوطنية للتحرير" وفي ما بعد "الجيش الوطني" الذي أطلق إردوغان عليه عند إعلانه بدء عملية "نبع السلام" مُسمَّى "الجيش المُحمّدي".
وفي الحالين الكردية والتركية لا شكّ أنّ حجم المخاطر كبيرٌ وكان يُمكن لو أكمل إردوغان العملية من دون دخول الجيش العربي السوري على الخط لجهة التوجّه إلى الحدود أن يكون بمثابة كارثة مُحقّقة حيث كان مُتوقّعاً أن تنهار القوات الكردية بمواجهة الجيش التركي، وهو ما كان سيسمح لإردوغان بالسيطرة على كامل الحدود السورية– التركية بعُمقٍ قد يصل إلى 40 كلم.
أمّا وقد بدأ الجيش العربي السوري في التقدّم إلى خط الحدود بعد إنجاز التفاهُم مع "قسد" برعايةٍ روسية، فنحن بالتأكيد أمام تحوُّل كبير في المشهد السوري يعكس التوازُنات الدولية المُتغيّرة أيضاً، إضافة إلى أنّنا في الجانب العسكري سنكون أمام مشهد مختلف حيث سيتمكّن الجيش العربي السوري من الوصول إلى كافة النقاط التي لم يصل إليها الجيش التركي ما يعني توقّف العملية العسكرية التركية.
وقبل الوصول إلى هذا المشهد وبعده أيضاً من المؤكَّد أنّ العملية العسكرية التركية كانت ستؤدّي إلى:
- دخول إردوغان إلى مستنقع الجزيرة السورية الذي ما كان يمكن أن يخرج منه بسهولةٍ، لولا إنجاز التفاهُم بين الجيش العربي السوري و"قسد" ليُشكّل بالنسبة له مخرجاً مقبولاً حيث من المُستبعَد أن يقوم إردوغان بإعطاء الأوامر لجيشه بالإشتباك مع الجيش العربي السوري، لا بل على العكس سيؤدّي ذلك إلى تمهيد الطريق لمفاوضات سورية– تركية بوساطةٍ روسيةٍ ربما تكون طويلة ولكنها يجب أن تُنتج اتفاقاً بما يرتبط بالأمن المشترك للبلدين سواء كان ذلك برغبة الأتراك أو بغير رغبتهم، لأنهم إذا لم يلتقطوا الفرصة هذه المرّة فسيكونون خارج التأثير في الحرب على سوريا كما فَقَد غيرهم تأثيرهم كالسعودية وقطر وحتى أميركا.
- قبل الإتفاق وبعده كان مصير الفصائل الكردية هو الإنتهاء بفارِق أنّ إتمامهم للتفاهُم مع الدولة السورية حماهم من عملية إبادة كان إردوغان يُعِدّ لها، وعليهم هذه المرّة الإستفادة من العِبَر والدروس وأن يتخلّوا عن حُلمهم القاتِل وينخرطوا بمفهوم المواطنة كضامنٍ لحاضرهم ومستقبلهم.
- ممّا لاشكّ فيه أنّ عملية إردوغان ستُسرِّع في معالجة الواقع العربي المُزري وتُعيد الزُخم للغة الحوار والإلتقاء أقلّه في البُعد المصلحي والإنتقال من حال الإشتباك إلى حال التشبيك.
- تثبيت الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط كأحد الأدوار القوية والحاضِرة والذي بات يُمسِك بأغلب ملفات المنطقة وإلى جانبه الدور الإيراني الصاعِد.
- تنامي دور محور المقاومة بمواجهة الإرهاب والكيان الصهيوني ضمن المُتغيّر الكبير بموازين القوى.
أمام هذا التحوُّل الكبير في المشهد السوري لن يختلف إثنان أنّ ما بعد دخول الجيش العربي السوري إلى الجزيرة السورية ليس كما قبله وهو ما سيتكرّر في الشمال الغربي، حيث سيندفع الجيش العربي السوري لتحرير تلك المناطق إن لم يستجب التركي ويتعلّم من التجارب ويذهب إلى التفاعُل جدّياً في العملية السياسية بعد إقراره ولو ضمناً بعُقم أحلامه التي باتت من الماضي السحيق على غِرار الحُلم الكردي فكل من الحُلمين لم يتسبَّب إلا بالقتل والدمار.