"الحايك" ... ثوب الثورة الجزائرية الذي حاربه الإستعمار

أن ندرس أزياء مجتمعٍ ما، فهذا يعني أنّنا نلج إلى خصائصه الثقافية والحضارية من خلال معيار يُمكِّننا من معرفة نمط عيش أفراده وشبكة علاقاته الاجتماعية- الاقتصادية ، و"التراتبية الاجتماعية" التي تُنظِّم اجتماعه، وطريقة تفاعله مع بيئته السياسية والاقتصادية وحتى المناخية. أيّ أننا هنا، أمام عنصرٍ مهم يُحيل إلى مضمون الوعي بالذات المتفرِّدة والمُمَيَّزة في إطار ما يُصطلح عليه بالهوية. "الحايك" كلباس اختصت به المرأة الجزائرية منذ قرون وأضحى علامة مُميَّزة لهويتها وتاريخها، يدخل ضمن هذا السياق.

تاريخ الحايك

لا شك أن دراسة الأزياء النسوية في الجزائر وثيقة الارتباط بتاريخ المنطقة، وذلك لجهة التغييرات الديموغرافية والسوسيولوجية، وكذا الاحتكاك والتفاعل بين مختلف المُكوِّنات الثقافية والحضارية المُشكِّلة لبلادنا منذ "الفتح الإسلامي" للمغرب والأندلس في القرن الثامن ميلادي، وقيام دولٍ وامبراطورياتٍ مختلفة حكمت المنطقة، إلى حين سقوط غرناطة آخر إمارة أندلسية سنة 1492 وما لحقها بعد سنوات من أحداث هيّأت الساحة للتواجد العثماني في المنطقة ككل (باستثناء المغرب الأقصى).

أرجعت بعض الآراء "الحايك" للتأثير العثماني مُعتمدةً في ذلك على كونه لباساً ميّز المرأة الجزائرية والتونسية من دون المغربية (حيث بقي المغرب الأقصى خارج حدود الامبراطورية العثمانية مترامية الأطراف). إلا أن شواهد كثيرة تنفي هذا الرأي وتعطي مصداقية علمية أكثر إقناعاً للرأي القائل بأصله الأندلسي. فالحايك الذي يُشتق إسمه من فعل "حاك" في اللغة العربية، كان لباساً مُمَيِّزاً للنساء الاندلسيات كما نقل لنا العديد من المؤرّخين، الذين تعرّفنا من خلالهم على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع الأندلسي. كالمقري وإبن الخطيب. وهذا الأخير شبّه النساء الغرناطيات وهُنّ يرتدين الحايك الأبيض أو الملحفة المصنوعة من الصوف أو الخيط أو حتى الحرير، بــ "أسراب الحمام".

بياض لون ثياب الأندلسيات يُرجعه إبن دحية إلى زرياب الذي سنّ لبس البياض لأهل قرطبة ثم انتشرت العادة عند سكان باقي المدن الأندلسية، وما زاد الارتباط باللون الأبيض هو اتّخاذه لوناً للحداد أيضاً تحت تأثير الأمويين الذين لبسوا البياض في مآتمهم (لازالت بعض المناطق في الجزائر على هذه العادة إلى الآن)، وذلك طلباً للتميز عن أعدائهم العباسيين الذين لبسوا السواد واتّخذوه شعاراً لهم، كما وصف الشاعر في هذه الأبيات:

ألا يا أهل أندلس فطنتم                   

بلطفكم إلى أمر عجيب

لبستم في مآتمكم بياضاً                

فجئتم منه في زيّ غريب

صدقتم فالبياض لباس حزن            

ولا حزن أشد من المشيب

كما أن اعتبار عدم انتشار لباس "الحايك" أو "الملحفة" في المغرب كدليل على أصله العثماني، تدحضه حقيقة شيوعه (ولو بطريقة مختلفة عن باقي بلدان المغرب في الجزائر وتونس) في الشمال الغربي المغربي (شفشاون، تطوان)، وهي مدن عمّرها الأندلسيون ونقلوا إليها أنماط عيشهم في العمران واللباس والموسيقى، حتى غدت مدناً أندلسية وسط الأراضي المغربية. إلا أن قاعدة بياض الحايك يكسره استثناء لون السواد الذي يُميّز الحايك أو "الملاية" في مدن الشرق الجزائري كقسنطينة وميلة وغيرها.

وتعدّدت هنا أيضاً "النظريات" المُفسِّرة للظاهرة بين من يُرجعها إلى بقايا الوجود الإسماعيلي الفاطمي، كون المنطقة شهدت انطلاق الدولة الفاطمية على عصبية قبيلة كتامة وحلفائها، وبين الموروث الشعبي الشفهي الذي يتداول قصة لبس النسوة الجزائريات للحايك الأسود، حداداً على مقتل صالح باي (1771-1792م) حاكم الشرق الجزائري (بايلك الشرق) الذي تمتع بنفوذ كبير في الأوساط الشعبية.

إلا أن الأرجح – في اعتقادنا - أن كلاً من النظريتين لا تمنحان الباحث تفسيراً مقنعاً، كون التأثير الاجتماعي والثقافي الفاطمي قد تم محقه بسبب الأحداث التي تلت انهيار الدولة الفاطمية في المغرب الأوسط بعد نقل عاصمتها من المهدية إلى مصر (حتى وإن بقيت بعض آثار الفاطميين في عاداتٍ اجتماعيةٍ ومرويات شعبية هنا وهناك).

كما أن ردّ ذلك إلى سواد الحداد ينفيه ما ذكرناه سابقاً حول غياب التوشّح بالسّواد كتعبير عن الحزن في بلاد المغرب ككل، تحت التأثير الأموي/الأندلسي. والأرجح أن لبس الحايك أو الملاية السّوداء في شرق البلاد، إنتقل بدوره من الأندلس لوجود مناطق أندلسية حسب العديد من الكتابات والشواهد، ارتدت فيها النسوة ذات اللباس، كمدن طريفة و بشر (vejer) على سبيل المثال.

الحايك والوعي بالهوية

كان دفع المرأة الجزائرية للتخلّي عن "الحايك" جزءاً من مشروع الاستعمار الفرنسي الذي يتضمّن وفق الدعاية الاستعمارية، "إخراج الجزائريين من طور التوحّش والتخلّف إلى الحضارة والتمدّن" أو ما سمّوه "المهمة التحضيرية". لذا كان التشبّث بهذا اللباس تجسيداً للمقاومة من جهة، وتكريساً للوعي بالذات الجزائرية الطامحة للاستقلال عن الاستعمار المنتمي لفضاء حضاري آخر من جهة أخرى.

وهذا ما عبّر عنه المناضل التحرّري فرانز فانون الذي التحق بالثورة الجزائرية، عندما كتب عن دور المرأة الجزائرية الفعّال في الثورة من خلال حمل حقائب القنابل تحت "الحايك"، والتشبّث به كرمز للتفرّد والتميّز عن الوجود الاستيطاني الأوروبي (إرتبط الحايك وحيّ القصبة العتيق بمعركة الجزائر التي خاضها جيش التحرير ضد المصالح الاستيطانية داخل العاصمة سنة 1957)، بعد الاستقلال سنة 1962.

وفي مرحلة المشاريع التحديثية التي قادتها الدولة الوطنية في الفترة الممتدة بين 68- 78، تأثر الحايك بالتحوّلات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي حدثت في المجتمع الجزائري، حيث أضحى اللباس العصري مُميِّزاً للمرأة العاملة أو الطالبة في مقابل لبس الحايك عند "المرأة التقليدية".

وفي عقد الثمانينيات ومع تأثّر المجتمع بموجات مدّ ما يسمى بحركات الإسلام السياسي، بدأ الحجاب يُسيطر على المشهد، يُنافس اللباس العصري في كسب مواقع المرأة الاجتماعية ذات الرمزية السياسية، وتراجع الحايك حتى أصبح من النادر أن تجد مَن ترتديه في المدن والقرى الجزائرية.

عملت في الآونة الأخيرة جمعيات ثقافية تراثية ونسوية على محاولة تدارك هذا التراجُع، من خلال تنظيم "تظاهرات ثقافية"ومسيرات لنسوة وفتيات يرتدين الحايك في مختلف المدن الجزائرية في مناسبات عديدة، ليبقى الحايك الجزائري يُصارع تحوّلات الزمن ويروي قصة تاريخ عريق وهُويّةٍ مقاومة.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]