صفقة فلسطينية تاريخية لإطاحة صفقة القرن وغيرها
بجانب المشهد الإسرائيلي نجد، حركة وطنية فلسطينية، كانت لها إنجازات قلقة ومشكلات مُستديمة، تعيش حال إخفاق في تحقيق أهداف معقولة لأسبابٍ موضوعية معقّدة ولأسبابٍ بنيوية ليست قليلة الشأن.
يتحرّك الوضع الفلسطيني داخل ثلاثة مشاهد معقّدة ومُتداخلة يؤثر بعضها في بعض: المشهد الأول هو المشهد الإسرائيلي وأبرز العوامل الحاكِمة فيه:
*عدم وجود استعداد من أيّ مستوى عند النخبة المُهيمنة في إسرائيل لاستحقاقات السلام ثقافياً وإيديولوجياً. هناك إجماع في النخبة الحاكِمة أو القادمة للحُكم حول هذه المسألة، مدعوم بتيار رئيسي غالب وكاسِح في الرأي العام، يتبنّى هذا الموقف. وهو إجماع لا يحكمه منطق السياسة ومتطلّباتها بل منطق إيديولوجي ثقافي عتيق وقديم مُستحكم، ستكون له عواقبه الوجودية الخطرة على إسرائيل: فكرة ومشروعاً ودولة وبشراً.
*رغم أن إسرائيل، قوية عسكرياً وأمنياً واقتصادياً ومن حيث الحلفاء والنفوذ، إلا أن هناك متغيّراً جوهرياً يجب التوقّف عنده، وهو الفرق بين قوّة إسرائيل الشاملة من جهة ، وقدرتها على استخدام هذه القوّة . إن الفرق في هذا المستوى هام واستراتيجي وهو فرق قابل للتراكُم وليس للتراجُع. ويد إسرائيل الطولى القديمة باتت تواجه مصاعب تتفاقم وتتصاعد من مواجهة لأخرى، لا، لم يعد بمقدورها العمل كما اعتادت في عقودٍ سابقة. ويوماً تلو آخر تتحوّل رهانات إسرائيل على نفسها وعلى حلفائها لعبء لا حلول له.
*إن الواقع في منطقة الشرق الأوسط يتغيّر، بعضه في صالح إسرائيل وأهمه في غير صالحها بالمعنى الاستراتيجي المنظور وبعيد المدى معاً. ورغم ما يترتّب عن متغيّرات الشرق الأوسط من مخاطر تمسّ الجميع وأكثرهم مساساً ستكون إسرائيل ، إلا أن العقل الحاكِم في إسرائيل ووعيها لا زال يتعاطى مع المنطقة وفق عاداته القديمة وصوَره القديمة عنها وطريقته القديمة في التعامل، هنا يمكن القول إن البيئة الإستراتيجية في المنطقة تتغيّر وطريقة تعاطي إسرائيل لم تتغيّر وهذا الوضع ينطوي على مُفاقمة المخاطر الإستراتيجية لإسرائيل ويُفاقم من عوامل ضائقتها الوجودية. وعلى ما يبدو فإن إسرائيل غير قابلة لأي نوع من أنواع اليقظة أو إعادة النظر، وأن تقف وتفكّر كما كانت تدعو أعداءها كي يفعلوا. يتغيّر الواقع غير أن الوعي الحاكِم لإسرائيل يشهد ارتداداً منهجياً نحو الزوايا الضيّقة ، ويودع نفسه في كنف عقم الإيديولوجيا وليس في عوالم السياسة العاقلة وممكناتها.
إن إسرائيل هي أكثر دولة مدجّجة بعوامل القوّة والسلاح والنفوذ والإيدولوجيا والحلفاء في العالم ، وهي لا تحتاج لمنظومة صواريخ جديدة مثلاً ، لكنها تحتاج لمنظومة عقل وتفكير سياسي جديدة تقرأ المُتغيّرات وتتعامل على ضوئها كما يتطلب منطق السياسة وليس رواسب الإيدولوجيا المرضية ، غير أنها لا تسير في هذا الاتجاه ، وهذا الأمر سيّىء لها وجيّد لأعدائها ، خصوصاً وأنها كيان استثنائي ومن نوع خاص، لا تتحمّل الأخطاء الوجودية كما قال يوماً أحد مسؤوليها يهوشعفاط هركابي قائد الاستخبارات العسكرية في حرب 1967. ذاته الذي قال أيضاً إن إسرائيل تحتاج إلى العقلانية كثيراً وإلى الإيدولوجيا قليلاً، غير أن إسرائيل تختار عكس ما أوصاها به رجل مسؤول خرّيج ميادين قتال. لذلك فإن :
*التيار القومي الديني المتطرّف يعزّز مواقعه وأطروحاته ونفوذه ويطرد ويُحاصر ويستبعد مَن هم سواه على ضعفهم.
كما لا يلحظ بأيّ شكل اتجاه إسرائيل لانتهاج مُقاربة عقلانية سياسية في رؤيتها لنفسها ومصيرها وللواقع ولضحاياها وأعدائها.
وعوضاً عن ذلك تواصل إسرائيل عملية إيقاع مجزرة سياسية إيديولوجية بالحقوق الفلسطينية السياسية والوجودية وفي يوميّاتهم وفي معناهم وفي أحلامهم. مستندة لموروث وثقافة عدوانية مدجّجة، لكنها غبيّة من الناحية الإستراتيجية ومن ناحية العواقب التي ستجلبها عليها وعلى الآخرين في المدى المنظور والبعيد معاً.
في هذا السياق يمكن فَهْم تبديد إسرائيل لكافة الحلول المنطقية المُحتملة لمسألة الصراع: من تدمير حل الدولتين بمنهجية ، وتتلافى بقوّة – وخيراً تفعل- حل دولة ثنائية القومية. وتقصي تماماً من خيالها حل دولة لكل مواطنيها وساكنيها، وليس بمقدورها اختراع مكان أو إيجاد وضع خارج فلسطين ومعناها، أو حتى استنساخ فلسطين أخرى، تحل من خلاله مشكلة الفلسطينيين . وإسرائيل لا تريد أن تنتبه إلى أن الاحتلال وثقافته قد أستكمل تدمير حياة الفلسطينيين، وها هو يفسد فكرة إسرائيل نفسها ومشروعها معاً.
بجانب المشهد الإسرائيلي نجد، حركة وطنية فلسطينية، كانت لها إنجازات قلقة ومشكلات مُستديمة، تعيش حال إخفاق في تحقيق أهداف معقولة لأسبابٍ موضوعية معقّدة ولأسبابٍ بنيوية ليست قليلة الشأن.
وتعيش الحال الفلسطينية الراهنة في كنف حال تفكك لمنظومة القِيَم التي كانت تشكل دليلاً وضابطاً لسلوكها السياسي من دون حلول منظومة أفضل وأحسن. بمعنى آخر يعيش الفلسطينيون تفكّكاً في قِيَم الإجماع وفي الدليل الناظِم لسلوكياتهم السياسية كما كانت عليه الحال إبان صعود حركتهم في عقود خلَت.
كما يقف الفلسطينيون أمام فشل خيار السلام ومُقاربته كما تمّت، في الوصول لغاياته أو لأية نتيجة يمكن البناء عليها.
ويتقلبّون في حال انقسام عميقة نفسية غرائزيه تتحكّم في الساحة الفلسطينية أصبح لها ثقافتها وخطاباتها ورواسبها، ولأنها تستند إلى غرائز بدائية ذات صبغة مُدمّرة ، ولا تتأثر بالعواطف الوطنية أو بمنطق السياسة السليمة، أو بالمصالح المُتوافق عليها ، فهي حال تنمو وتتطوّر من يوم لآخر ومن موقف لآخر. وسيفعلون خيراً سياسياً واستراتيجياً بأنفسهم إذا ما اغتنموا حال الإجماع الأخيرة ضد صفقة القرن، وبلوروا دليلاً جامعاً يتفقون تحته أو يختلفون، وعليهم ألا يجعلوا هذه الإمكانية فرصة جديدة مضيعة، لا يحتاجون بالتأكيد لترف تضييعها.
في البُعد الثالث من المشهد نجد: صراعاً معقداً يجري بين كتلتين إقليميتين لهما امتداتهما الكونية القوية ، يتّسم فيها الصراع أنه يقوم على خط البقاء الأخير، حيث حدود المناورة والإيهام محدودة، لذلك تفصح أطراف الصراع عن رؤيتها بكامل الوضوح، تطبيعاً أو ممانعة أو اصطفافاً. وفي خضّم هذا الصراع فإن فلسطين كقضيةٍ مطروحة في صميم كل المشاريع المتصارعة.
إن البيئة الإستراتيجية في المنطقة تتغيّر على نحوٍ عميق ، ويلحظ اندحار بالنقاط الثقيلة لمحور وفوز بالنقاط الثقيلة لطرف آخر. والمنطقة تدخل مرحلة معارك ترسيم المعادلات الجديدة داخل حروب سيربحها من لديه المناعة الوجودية والقادر على احتمال الخسائر والاستمرار. وهذه الخاصية ليست إسرائيلية والظرف الأميركي سيّىء وأوروبا تتحسّس أقدارها بصعوبة بالغة والعرب عربان، عرب لفلسطين وعرب عليها.
في هذا الحيّز بالضبط تبرز أهمية بلورة مقاربة فلسطينية مختلفة بخيال ووعي مختلف وقراءة أخرى للواقع والمُعطيات والضرورات تقوم على:
* تشكيل كتلة سياسية تاريخية تستند إلى مذهب الصمود السياسي ،تقوم على تجاوز الرواسب القائمة ، وتجمع القوى الحيّة في الشعب الفلسطيني وامتداداتها في كل العوالم المُمكنة.
* بلورة خطاب يناسب الكتلة ويتّجه نحو مستوى من التأطير ويتدعّم بسياسات تساعد على تنمية الصمود وتثميره .
*استعادة خطاب دولة لكل مواطنيها وساكنيها في مواجهة تموضع إسرائيل العنصري داخل السياج القاتِل للدولة اليهودية، وتلاشي فكرة الدولتين عملياً، خطاب ينفتح بذكاء وبخيال على مقولات مقاومة الاحتلال وثقافته بما هي خراب يمسّ الجميع ويهدّد الأمن في المنطقة والعالم. إن أهم الحلول التي تخشاها إسرائيل وتحرجها، هو حل دولة لكل مواطنيها.أما باقي فرضيات الحلول فبمقدورها أن تتلاعب فيها لحين طويل من الزمن.
*تدعيم الوقوف في المكان المناسب التي تنهجه المركزية الفلسطينية بخصوص متغيّرات المنطقة والإقليم على نحو يستفيد مما يجري ويمنع تحوّل الفلسطينيين إلى ضحايا.
* قراءة التهديدات بأبعادها المتعدّدة ، إذ أن صفقة القرن يصوغها عمى إيديولوجي وغباء استراتيجي وجهل متعمّد وعزلة عن قراءة الواقع والذهاب في رهانات ضالّة. وبمقدار ما هي بمندرجاتها مثل: ضم القدس والجولان وما هو قادم، مكاسب نفسية رمزية إيديولوجية لإسرائيل، فإنها كرة من لهب يلقيها وعي فاجِر في حضن إسرائيل الحمقاء التي لا تستطيع تصريفها.