الجزائر: العالية العاتية...
الجزائر ليست موجودة حيث هي في الجغرافيا والمعنى فقط، إنها في صميم ووعي وخلد ووجدان وخيال الأصيلين في الأمّة برمّتها، وقوّة استرتيجية بذاتها وبتأثيراتها، وما يجري فيها مؤثر وله تداعياته العميقة، ينال خيرها وجمالها الكثيرون، ويؤذي أن يمّسها ضر أو سوء الكثيرين أيضاً.
أنا من فلسطين وبرّ الشام والهلال الخصيب، حيث أعالي العروبة الثقافية وعزمها، عشت دهراً جميلاً في تونس، فصرتّ من تونس بالوعي وبالخيار وبالعواطف ، وهناك تعلّمت كيف أكون أكثر عقلاً.
وفي تونس، كنت من الجزائر الغالية العاتية وإبناً لوجدانها الخصيب، وكنت من موريتانيا النقية، وتنسّمت المغرب العميق، وكنت سودانياً بريئاً أيضاً . كما كنت وبكامل الامتلاء من اليمن الأصيل.
أتاحت لي تونس بأن أطلّ من شرفاتها المفتوحة على كل مصراع على عوالم مختلفة . ومن بين أعظم ما أتاحته لي، بأن أطلّ على "معنى قدَاسة التراب الوطني"كما يبنيه الوعي الفردي الجَمْعي الجزائري، وبأن أتمثّل هذه المقولة، كواحدٍ من أبناء الجزائر المُنحدرين من رحمها.
وقداسة التراب الوطني وسردياته كما بناها وجدان الجزائريين ووعيهم وتجربتهم، تحوّلت إلى أهمّ قيمة ضامِنة في حياتهم، صار لها مؤسّساتها المنظورة، كما تمأسّست بقوّة في خيالهم الفردي والجَمْعي. و كان لهذه القداسة القدرة والخيال،على أن تكون فلسطين بجلالة قدرها وعواطف العروبة وقِيَم الكرامة والسيادة والانعتاق والتحرّر والتحكّم في المصير، هي في صميم معنى التراب الوطني الجزائري وقداسته.
لذلك كان مفهوم "النيف" بمعنى الكرامة جزائرياً، كما لم يكن عند أحد بهذا القدر من الكثافة والحضور في سلوك الفرد والدولة . وقد عبّر "النيف"الجزائري عن نفسه في كل صعيد: من أضيق الأزقّة في قرية لم يسمع بها أحد في الجزائر، إلى أوسع أفق في العالم وقضاياه ومنصّاته، ومن باب الاعتراف والإنصاف كان عبد العزيز بوتفليقه إلى جانب الهواري بومدين وأحمد بن بلّه من كبار المُعبّرين عنه في الذاكرة الجزائرية وذاكرة العالم. وأن تقوم دولة بالكاد استقلّت، بتحويل مفهوم الكرامة بمعناه الجزائري العميق، لقيمة حاكمة في موقفها من الآخرين، ومن قضايا التحرّر والانعتاق في العالم، وفي علاقاتها الدولية ، فهذا أمر لا تستطيعه إلا الشعوب المُمتلئة والدول القوية.
في اللحظة الحَرِجة التي تمرّ بها الجزائر حالياً، نحتاج كما يحتاج الجزائريون من كل صوب وجهة وحدب، لتمثل ثوابت الجزائر وقداسة معناها، والمضيّ قدماً نحو إحداث التحوّل المطلوب والمنشود واللازِم والضروري، من دون ثقافة القَطْع مع الماضي والذاكرة الإيجابية للتجربة، ومنع خيالات البعض من الانزلاق نحو ما هو غير مناسب، وما هو ضار، وما هو غير نافع. كما يتعيّن على اليقظة الفردية والجمعية الجزائرية أن تمنع الشعار الطائش أو الجانِح أو المُخرّب أو غير القابل للتحوّل لواقع إيجابي، من التجوّل في وعي الجزائريين. والرهان قوي على سلامة الحسّ العام والوعي الجَمْعي الجزائري عند الدولة ومؤسّساتها العميقة، وعند النُخَب الأصيلة في المولاة والمعارضة، وعند التيار الأساسي في المجتمع الجزائري.
وعيٌ عميقٌ لرجل من المغرب جرى التواضع على تسميته بـ "عبد الله العروي" يقول لنا موعظة كبرى في التاريخ السياسي، يحتاجون في الجزائر كما نحتاج نحن العرب حيثما كنا، لاستحضارها ولتمثّلها ولاعتمادها مرجعية في التعاطي السياسي وفي النظر. العروي يقول لنا "لتغيّر واقع الدولة يجب التصالُح معه". ودعوته للتصالُح مع واقع الدولة لا تعني القبول به كما هو، بل البناء على ما هو منجز وجدير فيه، وتغيّر واستبدال ما هو غير مناسب وقاصِر أو فاسِد فيه، على نحو ينقل الدولة إلى ما هو متوقّع منها، من خيرٍ عام، وصلاحٍ عام ، وكفاءة عامة، وكرامة عامة، وعدالة عامة. ويضع حجر الأساس لأهمية التراكُم وخيراته التي نحتاج إليها جميعاً.
هنا بمقدور عبقرية الحسّ العام ودور النُخَب والمُثقّفين العضويين، ووجود فاعلين سياسيين وثقافيين قادرين أن تتجلّى، وتعمل على تحويل ذلك إلى: ممارسات ومكاسب مُجدية وإلى ثقافة. وتمنع الخطاب المُطلَق من العمل وتحول من دون المسار العام واحتمالات الهلاك.
إن الجزائر ليست موجودة حيث هي في الجغرافيا والمعنى فقط، إنها في صميم ووعي وخلد ووجدان وخيال الأصيلين في الأمّة برمّتها، وقوّة استرتيجية بذاتها وبتأثيراتها، وما يجري فيها مؤثر وله تداعياته العميقة، ينال خيرها وجمالها الكثيرون، ويؤذي أن يمّسها ضر أو سوء الكثيرين أيضاً.