معسكر المُقاومة والحوار الإستراتيجيّ المطلوب

إن تحرير فلسطين هو الشرط اللازم لتحرير إرادة الأمّة وتحرير الوطن العربي الكبير وطرد الغُزاة وقهر الاستعمار والاحتلال وهو الشرط اللازم في تغيير المنطقة والإقليم، وتحقيق نهضة عربية تضمن للأمّة دخولًا مُتجدّداً مرّة أخرى في صناعة التّاريخ واللحاق بالعصر الحديث.

تؤكّد التجربة التاريخيّة التي عايشتها وتُدركها شعوب الأمّة أكثر من أحزابها أن النظام العربي الرّسمي يتفكّك وينهار

بديهيّ القول إن الحوارات واللقاءات لا تنقطع بين قوى المقاومة الفلسطينية وشقيقتها اللبنانية والقوى الشعبية العربية التي ترفع " لواء المقاومة والتحرير " لكن أمام ما يتهدّد الأمّة العربية وقضيتها ، فلسطين ، من أخطار التجزئة والتفكيك والتصفيّة صار لزاماً السير خطوة عمليّة واسعة وجادة إلى الأمام ، للعبور نحو آفاقٍ جديدةٍ وجسر المستقبل ، وهذا يشترط الشروع في حوار إستراتيجيّ أعمق وأبعد وأكثر صراحة داخل المعسكر الواحد ، كضرورة لا بدّ منها تفرضُها التحدّيات الرّاهنة والتطوّرات المُتسارِعة في المنطقة والعالم وتؤكّدها مهمات المرّحلة القادمة.

نقصد بالتحديد: حواراً استراتيجياً شاملاً يتجاوز التقليديّ واليوميّ والتكتيكي إلى تحديد رؤية نضاليّة عربية مشتركة تُمّهد الطريق نحو طراز أرقى في مواجهة قوى الإستعمار والكيّان الصهيونيّ وأذنابهما في المنطقة والإقليم، رؤية مُتكاملة الأركان تُشكل أرضيّة صلبة ومشتركة ومُلزمة لجميع الأحزاب والقوى والتيارات والشخصيات المشاركة في هذا الحوار المُرتجى والمطلوب. رؤية مُغايرة لما نراه اليوم من أطر هلاميّة وشكليّة ، تتوزّع بين عاجزة أو ضعيفة أو تابعة.

التطوّرات الميّدانيّة والسياسيّة المُتسارِعة على جبهة فلسطين، العراق، سوريا، اليمن وما جرى من نكبات متتالية وما تحقّق في السنوات الأخيرة من صمودٍ وانتصاراتٍ كبرى في مواجهة " معكسر داعش "، كلها تدفع نحو ولادة جبهة المقاومة العربية الموحّدة بوصفها خشبة الخلاص الجماعي الوحيدة، تعزيز العمل القومي الشعبيّ الذي يشمل الإعلامي والسياسيّ والمالي والجماهيري والعسكري والأمنيّ، ويتبنّى " الحّل التّاريخي " للصرّاع العربي ــ الصهيوني والمُتمثّل في تفكيك وإزالة الكيان الصهيوني العنصري الإستعماري وتصفيته.

إن تحرير فلسطين هو الشرط اللازم لتحرير إرادة الأمّة وتحرير الوطن العربي الكبير وطرد الغُزاة وقهر الاستعمار والاحتلال وهو الشرط اللازم في تغيير المنطقة والإقليم، وتحقيق نهضة عربية تضمن للأمّة دخولًا مُتجدّداً مرّة أخرى في صناعة التّاريخ واللحاق بالعصر الحديث.

معسكر المقاومة العربية الذي يقاتل اليوم في مواجهة الإمبريالية والصهيونية والرّجعية يحتضن نظرياً القوى الشعبية، يدعو الأمّة إلى الوحدة ونبذ الخلافات والحروب وتجاوز الصراعات المذهبية والطائفية، ويعاني هو من هذه الظواهر والأمراض كلها. على عاتقه مسؤولية تاريخية في ترجمة الشعارات إلى برنامج عملٍ يُشكّل بديلاً تاريخياً للنظام الرّسمي القائم . يجب الاعتراف أن هذا المعسكر لا يزال يفتقر إلى الرؤية الإستراتيجيّة السياسيّة والتنظيميّة على حدٍ سواء.

أوليس من حق طلائع وقوى الأمّة العربية أن تسعى إلى جبهة تحرّر تستعيد جوهر حركة التحرّر العربية لإنجاز الإستقلال الوطني والسيادة الوطنية / القومية وممارسة حق تقرير المصير ؟ نُردّد ليلاً نهاراً " هذه معركة واحدة ونحن في مواجهة عدو واحد " إذن أين هي أدواتنا الواحدة ورؤيتنا المشتركة؟

تؤكّد التجربة التاريخيّة التي عايشتها وتُدركها شعوب الأمّة أكثر من أحزابها أن النظام العربي الرّسمي يتفكّك وينهار. لقد فشلت " الدول العربية " في تحقيق التنوير والتنمية كما فشلت على جبهة العدالة الاجتماعية والديمقراطية، وظلّ هذا النظام (القديم) يتهاوى ويتراجع أمام تقدّم الكيان الصهيوني (الجديد)، ولم تعرف الأمّة على يد " الجامعة العربية " إلا الهزيمة في كل " المواجهات" و "الحروب" التي "خاضتها" على مدار سنوات الصراع العربي الصهيوني منذ ثمانية عقود على الأقل.

وتؤكّد الحقيقة التاريخية ذاتها، على الجانب الآخر النقيض، نجاح وتقدّم قوى المقاومة الشعبية والمُسلّحة في الصمود وكبح جماح الكيان الصهيوني وتعطيل مشاريع كبرى مُعادية . إن التكامل في الدور بين قواعد وقوى المقاومة الشعبية من جهة وبين إرادة الجيوش الوطنية التي تحرّر قرارها سيكفل تحقّق الصمود والنصر، منذ معركة " الكرامة " في مارس / آذار 1968 في الأردن مُروراً بانتصارات المقاومة اللبنانية في أكثر من محطة، وصولاً إلى هزيمة " داعش " وأخواتها وانكفاء مشروع أنظمة الرّجعيات النفطية التي شاركت ، كأداة مأجورة ، في تنفيذ المخطّط الإستعماري وفي تدمير ليبيا والعراق وسوريا واليمن وغيرها.

إن السؤال المركزيّ الذي ينطلق منه الحوار الإستراتيجي المُفترض هو البحث في ماهية معسكر المقاومة العربية القادر على مواجهة الإستعمار الأجنبي والعدّو الصهيوني من جهة ، والتعايش والتجاور والحوار في إطار مشروع عربي تحرّري من جهةٍ أخرى.

بعبارة أدق:

البحث في المعسكر الشعبي العربي البديل الذي يصون التعدّدية السياسية والفكرية والدينية ويبشّر الأمّة بولادة نهضة عربية على أنقاض نظام عربي فاسد وتابع جاء من خارج المشروعية الشعّبية والثوريّة والدستوريّة، وجوهره تقسيم الوطن العربي منذ اتفاقيات " سايكس بيكو " وصولاً إلى  "معاهدات السلام " التي لا تعدو كونها الإسم الرديف للهزائم العربية الرّسمية المُتلاحقة من كامب ديفيد الى وادي عربة وأوسلو وصولاً الى مشاريع التطبيع وغيرها من مظاهر الهزيمة!

معسكر المقاومة الذي تكون هويته عربية وهدفه تحرير فلسطين عليه أن يتجاوز حدود " التضامن " مع الشعب الفلسطيني إلى اعتبار فلسطين قضيته المركزية قولاً وعملاً . هذا يعني الإنتقال من حيّز وشعارات " الدعم " و " الإسناد " إلى حيّز المشاركة الفعلية والمبادرة .

عشرات آلاف الشباب العربي المُضَلَل والمُغيّب ذهب للقتال في المعركة الخطأ ، اليوم يجب دعوة الشباب العربي مُجدّداً إلى القتال في الميدان الصحيح وإلى قيادة هذا المشروع التحرّري كله، هذه مسؤولية قوى المقاومة أولاً وعاشراً تجديد هياكلها وتمكين قواعدها بالوعي والبوصلة والسلاح والهدف الذي يشير إلى القدس.

المعسكر العربي المقاوِم لا ينفي ولا يلغي الخُصوصيّة والتعدّدية الوطنية ولا يصادرها أو يذوّبها بقدر ما يؤكّدها ، بل إنه ينطلق منها أولاً كنموذجٍ بديلٍ واقعيٍ وثوري ديمقراطي يقدّمه للأمّة، يكفل انطلاق القوّة الكامِنة فيها ويجمع التيارات الرئيسة فيها ، القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية وكل تقاطعاتها في مشروع نهضوي تنويري ، يمنح الطبقات الشعبية العربية أملاً في عالمٍ بديل يستحقّ التضحية من أجله، وهذا المشروع الثوري العروبي لا يحقّقه مؤتمر في بيروت أو لقاء في طهران أو دمشق أو مهرجان في غزّة وبيان

 ختامي، ثم كفى الله المؤمنين شرّ القتال، بل يحقّقه حوار استراتيجي صريح ومؤلم في بعض جوانبه ، ويلازمه برنامج عمل للتنفيذ تشارك فيه القواعد الشعبية لقوى المقاومة وجموع المثقفين والمُبدعين العرب ، ويتقدّمه جيش طليعي يُترجم الأقوال إلى أفعال في الطريق الى هزيمة " هولاكو العصر " و تحرير فلسطين.