التظاهر بالجنون هي استراتيجية ترامب

شخصية ترامب "غير المستقرّة" و"غير الرصينة"، تخفي في بعض جوانبها، "استراتيجية أميركية" تقوم على مبدأ إنه "من الحكمة في بعض الأحيان التظاهُر بالجنون"، كما يقول نيكولو مكيافيلي.

يستبشر أعداء واشنطن خيراً بالرئيس المجنون، فمَن يسكن البيت الأبيض أحمق، وفق ما كان صرّح به الأمين العام لحزب الله

في عام 1995، أعدّت "القيادة الاستراتيجية الأميركية" (CINCSTRAT سابقاً USSTRATCOM حالياً) التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، والمسؤولة عن الترسانة النووية في البلاد،  دراسة سرّية تحت قيادة الأدميرال، هنري تشايز، عنوَنتها بـ"أساسيات الردع بعد الحرب الباردة"، ونُشِرت في عام 2001، من خلال قانون "حرية المعلومات" الأميركي (Freedom Of Information Act).

في تفاصيلها، تؤيّد الدراسة استغلال الولايات المتحدة ترسانتها العسكرية والنووية كي تصوّر نفسها غير عقلانية، وانتقامية، إذا ما هوجِمت "مصالحها الحيوية". وهذا يجب أن يكون، حسب الدراسة، جزءًا من "الشخصية الوطنية" التي تبرزها واشنطن لخصومها. وتشير الدراسة، إلى أن ظهور بعض عناصر الإدارة الأميركية، على أنهم "خارج السيطرة" سيكون مفيداً، لخلق وتدعيم مخاوف وشكوك في أذهان صانعي قرارات أعداء الولايات المتحدة، فتقول الدراسة: "إن من الخطر الشديد، أن نظهر أنفسنا على أننا أناس عقلاء لدينا أعصاب باردة، وأن نظهر أمام العالم أننا نحترم أموراً سخيفة مثل القانون والمعاهدات الدولية". 

استحدثت دراسة "القيادة الاستراتيجية، نظرية نيكسون المجنون، التي روّج لها وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، حيث مارس الأخير "النظرية" عام 1972، خلال مفاوضاته، كمستشارٍ للأمن القومي الأميركي، مع الوفد الفيتنامي في باريس، الذي كان يرأسه، لي دوك تو، عضو المكتب السياسي في "الحزب الشيوعي"، الحاكِم في جمهورية فيتنام الشمالية.  

أوصى الرئيس الأميركي، ريتشارد نيسكون، مستشاره للأمن القومي: "يجب أن يعرف أعداؤنا (الفيتناميون) أنّ الجنون مسّنا، ولا يمكن التنبؤ بما سنفعله، بقوّة تدمير فائِقة للعادة تحت إمرتنا، وهكذا سوف يرتدعون خائفين". ويروي الكاتب الكندي، مايكل ماكلير، الذي كان أحد مُساعدي نيكسون، في كتابه "حرب العشرة آلاف يوم"، حول الحرب الفيتنامية وتداعياتها، أنه عندما تصل المُساجلة التفاوضية إلى نقطةٍ يتصلّب عندها الفريق التفاوضي الفيتنامي، كان كيسنجر يطلب تعليق العملية، ثمّ بعد ذلك يختلي مع لي دوك تو، فيقول له مُتقمّصاً دور الناصِح: "أحبّ أن تعرف أن ذلك الرجل الجالس في البيت الأبيض في واشنطن (نيكسون) مجنون!، ولولا أنني أقوم بتهدئته من حين لآخر، لأمر بتسوية فيتنام كلها بالأرض"، ثم يومىء كيسنجر برأسه مدّعياً التحيّر: "الآن وقد أوصلتم التفاوض إلى طريقٍ مسدود فإن هذا الرجل (نيكسون) عندما يبلغه الخبر، سوف تعاوده حال الجنون!". 

توضِح الدراسة الصادِرة عن "القيادة الاستراتيجية الأميركية"، إلى حدٍّ ما، صفة "الجنون" التي باتت مُلاصِقة لترامب، إذ أصبحت الجملة الأكثر تداولاً لتفسير خطواته القادمة: "هذا مجنون، ممكن أن يُقدِم على أيّ شيء، ولا يمكن توقّع ماذا سيفعل"، ما تعزّز مع صدور كتاب "نارٌ وغضب: ما يحدث داخل البيت الأبيض في عهد ترامب"، أخيراً، للكاتب مايكل وولف، والذي أظهر شخصية ترامب "اللامسؤولة والمُتهوّرة"، بالإضافة إلى كشفه، خلافاته مع فريقه، في جوانب عديدة من قراراته.

لكن على الرغم من التصريحات العديدة، التي أطلقها مسؤولون أميركيون ضمن إدارة ترامب، بشكلٍ علني أو سرّي، أبدوا فيها إمكانية معارضتهم لـ"أوامره"، ومُلمّحين إلى أنه "مُتسرّع وغير مُدرِك لخطورة قراراته"، فإن تلك التصريحات تبقى في كثيرٍ منها، داعمة لـ"نظرية ترامب المجنون"، الهادِفة إلى ترهيب وردع خصوم واشنطن. على سبيل المثال، صرّح قائد القيادة الاستراتيجية الأميركية، الجنرال جون هيتن، العام الماضي، أنه سيعارض "أيّ قرار للرئيس الأميركي دونالد ترامب بشنّ هجومٍ نووي غير قانوني".

هيتن، المسؤول عن الترسانة النووية الأميركية، قال في مؤتمر أمني في كندا: "إن الناس يظنّون إننا أغبياء، لكننا لسنا كذلك، نحن نفكّر في هذا الأمر كثيراً". اللافت، أن تصريحات هيتن، واستعراضه المُبطّن لـ"جنون ترامب وغبائه"، تزامنا مع وصول التوتّر بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، إلى مرحلةٍ كانت تهدّد باندلاع الحرب بينهما، فيما كان نوابٌ أميركيون يطالبون، بتعديل سلطة الرئيس باستخدام السلاح النووي، بعد عقد لجان "الكونغرس"، أول لجنة استماع بخصوص سلطة الرئيس النووية منذ 4 عقود.

واستمر ذلك، خلال الأشهر التي سبقت لقاء ترامب-كيم جونغ أون، في حزيران الماضي، وما تخلّلها من مفاوضات مباشرة وغير مباشرة، ضمن سياسة أميركية مُتّبعة، كان كشف عن ملامحها، وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتز، في نيسان عام 1986 بقوله: "إن كلمة مفاوضات لا تعني شيئاً آخر سوى الاستسلام، إذا لم يسبقها استعراض للقوّة"، في تماهٍ مع "دبلوماسية المدافع" التي تتّبعها واشنطن، عبر الحشد والتهديد بعملٍ عسكري من جانبها، كمُقدّمة لدخولها أيّة مفاوضات.

في الوقت الذي باتت فيه القدرة النووية تضعف بتأثيراتها، مع اتّساع نادي الدول النووية، تكمن المفارقة، أن استراتيجية "الرئيس المجنون" المُتبّعة مع ترامب، والهادفة إلى "ردع وتخويف الأعداء"، تأثّر بها حلفاء واشنطن التقليديين، أكثر من أعدائها. فالسعودية العاجزة عن الردّ على "الإهانات" التي يكيلها ترامب لها بشكلٍ شبه يومي أخيراً، تعاني من "رُهاب" ما يمكن أن يقوم به الرئيس الأميركي، لا سيما وأن تصريحاته يرافقها تهديد واضح، برفع الحماية الأميركية، في حال توقّف تدفّق الأموال السعودية إلى الخزانة الأميركية.

بالتوازي، تهرول الدوحة لعقد صفقاتٍ مع واشنطن، على الرغم من أن الأخيرة، هي التي أعطت الضوء الأخضر لأبوظبي والرياض، بافتعال الأزمة الخليجية معها. مقابل ذلك، يستبشر أعداء واشنطن خيراً بـ"الرئيس المجنون"، فمَن يسكن البيت الأبيض "أحمق"، وفق ما كان صرّح به الأمين العام لـ"حزب الله"، السيّد حسن نصرالله في شباط العام الماضي، وهذا بحسب نصرالله، "لا يدعو للقلق بل التفاؤل".