مُعاقبة غزّة
ليست هكذا تورَد الإبل، فقطاع غزّة ليس صندوق بندورة أو شراء بضاعة، إنما غزّة عنوان صمود وتحدٍ لإعادة الصَدارة للقضية الوطنية الفلسطينية في مسيرات العودة بعدما همّشتها مسيرة خمسة وعشرين عاماً من المفاوضات العبثيّة بعيدة كل البُعد عن قرارات الشرعية الدولية، فهي التي واجهت ثلاث حروب ضروس في غضون ست سنوات عِجاف، واثني عشر عاماً من الحصار الإسرائيلي الظالم، وعشر سنوات ونيّف من الانقسام الفلسطيني الداخلي.
حديث الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مُستهلّ اجتماع اللجنة المركزية لحركة فتح الأخير في رام الله، بالقول، "إما أن نستلم كل شيء، بمعنى أن تتمكّن حكومتنا من استلام كل الملفات المُتعلّقة بإدارة غزّة من الألف إلى الياء، بما يشمل الوزارات والدوائر والأمن والسلاح وغيرها من القضايا، وعند ذلك نتحمّل المسؤولية كاملة، وإلا فلكلِ حادثٍ حديث. و"إذا رفضوا (حماس) لن نكون مسؤولين عما يجري هناك (في غزّة)".
ليست هكذا تورَد الإبل، فقطاع غزّة ليس صندوق بندورة أو شراء بضاعة، إنما غزّة عنوان صمود وتحدٍ لإعادة الصَدارة للقضية الوطنية الفلسطينية في مسيرات العودة بعدما همّشتها مسيرة خمسة وعشرين عاماً من المفاوضات العبثيّة بعيدة كل البُعد عن قرارات الشرعية الدولية، فهي التي واجهت ثلاث حروب ضروس في غضون ست سنوات عِجاف، واثني عشر عاماً من الحصار الإسرائيلي الظالم، وعشر سنوات ونيّف من الانقسام الفلسطيني الداخلي.
غزّة تستحق جدارتها في الحياة، فهي ليست بضاعة فاسِدة أو حمولة زائِدة، حتى تتّخذ إجراءات عقابية تطال كافة مناحي الحياة، فلم يعد الوضع مُحتملاً مع تزايُد الأزمات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في قطاع غزّة، فنِسَب الفقر والبطالة بمعدّلات فلكية، والأمن الغذائي والوظيفي يصل إلى العدَم، ومشاكل انقطاع الكهرباء وشحّ المياه، وغلاء الأسعار في ظلّ سياسة الحِصار والتجويع التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي، والألم الذي يدفع الفلسطينيون نحو الانفجار رغم إدراكهم أن الأمل قادم.
بيد أن الحال الفلسطينية تعيش حال عزلة مقيتة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، بعد تفجير موكب رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمد الله، وأصبح شقّا الوطن يعيشان حالة من الطلاق السياسي بينهما. فيما المُستغرَب أن الرئيس محمود عباس يُعاقب غزّة لأنها خرجت عن طوره، ولم يستطع التلويح بالكرت الأحمر ولو لمرة واحدة في وجه إسرائيل ، التي تصادر الأرض وتهوّد القدس وتفرض الحصار وتواصل العدوان على الشعب والوطن، بل يواصل تهميش وتدمير المؤسّسات الرسمية الفلسطينية عبر تجاهُل قرارات المجلس المركزي في دورتيه الأخيرتين (2015، 2018).
سيادة الرئيس، قلت في أكثر من منبرٍ محلي وعربي وأممي، إننا أصبحنا سلطة بلا سلطة، ودولة بلا سيادة بل وأصبح الاحتلال بلا كلفة، فلماذا تُبقي على الحال الانتظارية من دون أية خطوة عملية إلى الأمام، من دون سياسة عملية في الميدان توفّر الغطاء السياسي لمسيرات العودة، نحو تطبيق قرارات المجلس المركزي الفلسطيني في دورته الأخيرة في كانون ثاني/يناير 2018 بما في ذلك فكّ الارتباط باتفاق أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي، وسحب الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، وفكّ الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي، وسحب اليد العاملة من المستوطنات، ووقف التعامل بعملة الشيقل الإسرائيلي.
سيادة الرئيس، الواقع في قطاع غزّة يختلف عن الضفّة الغربية من طبيعة الاحتلال الإسرائيلي والجغرافيا السياسية، فبدلاً من بناء عوامل صمود غزّة التي تخوض غِمار المقاومة الشعبية ضد الاحتلال تُعاقبها على فعلتها. فالحال الفلسطينية في موقف حرج وتسلّم حكومة التوافق الوطني كافة مهامها في غزّة ممكن في الوزارات المدنية والدوائر والمؤسّسات الأمنية، فيما سلاح المقاومة يبقى خارج المعادلة كون الدولة الفلسطينية أصبحت في مهبّ الريح والاحتلال يُدمّر الأخضر واليابس ويواصل عدوانه على الشعب والأرض الفلسطينية والقدس العاصمة، وفي حال بناء الدولة والنظام السياسي الفلسطيني سيزجّ هذا السلاح ومقاتلو الأجنحة العسكرية في جيش دولة فلسطين الوطني حال قيامها.
الرهان الآخر في حديث الرئيس عباس عن المفاوضات وفق حل الدولتين والقدس عاصمة لدولة فلسطين. عِلماً أن المطروح على الفلسطينيين لا حل لدولتين ولا دولتين، ولا حل دولة واحدة على قاعدة المساواة في المواطنة لأن الرأي العام الإسرائيلي بغالبية كاسِحة يرفض دولة واحدة على أساس المساواة في المواطنة، ولأن المفاوض الفلسطيني راهنَ على مفاوضات عمرها خمسة وعشرين عاماً مرجعيتها ما يدور على طاولة المفاوضات وليست قرارات الشرعية الدولية، بل وأجلّ القضايا المصيرية إلى مفاوضات الوضع النهائي، فالمطروح أسوأ ما كانت عليه الحال في اتفاق أوسلو، دولة في غزّة وأقل من نصف مساحة الضفّة الغربية من دون القدس عاصمة لها ومن دون عودة للاجئين وفق القرار 194، ومن دون حدود وسيادة فلسطينية على الأرض.
هذا واقع مؤلم وخطير، مع استمرار القيادة الفلسطينية حال التردّد في تدويل القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، والرهان على الإدارة الأميركية وتوجّهاتها بإطالة عُمر الانقسام الفلسطيني، وعدم إنجاز وقائع على الأرض، لمُراكمة الوقائع لصالح امتيازات تلك القيادة الخاصة على حساب المشروع الوطني الفلسطيني، ما فتح شهيّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب باتّخاذ قرارات لخفض مساهمة بلاده لوكالة «أونروا»، واتّخاذ خطوات لشطب قضايا القدس والاستيطان واللاجئين من على جدول أعمال أية مفاوضات مستقبلية. وقد تكون التحديات في القدرة على:
إعادة هيكلة مؤسّسات السلطة الفلسطينية وبرامجها، بعيداً عن التفرّد، وآليات عمل تلك المؤسّسات لتتحوّل من سلطةِ حُكمٍ ذاتي تلبّي مُتطلّبات الاحتلال إلى سلطة وطنية لحركة تحرّر وطني، لشعبٍ اختار المقاومة والانتفاضة سبيلاً للخلاص من الاحتلال والتهويد والاستيطان، وتحقيق أهدافه في تقرير المصير والعودة والاستقلال.
إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية وإطلاق سراح المؤسّسة التشريعية لفرض الرقابة الشعبية على أداء الحكومة وأداء القيادة الرسمية، ومن دون ذلك سيبقى الانقسام عقبة في وجه الإصلاح الديمقراطي ويُعطي الذرائع للقيادة الرسمية لمواصلة سياسة التفرّد والاستفراد، ولطرفيّ الانقسام توفير المناخات المناسبة للحفاظ على حال تقاسُم السلطة والمال والنفوذ.