أميركا في طريق مسدود من فيتنام إلى أفغانستان
ملايين الجنود الأميركيين الذين زَجَّت بهم الإدارة الأميركية طوال 20 عاماً، ومئات مليارات الدولارات التي أنفقت على الحرب والاحتلال، كلّها إمكانيات هائلة سقط مفعولها في لحظة صعود آخر جندي أميركي إلى الطائرة من مطار كابول.
يمكن وصف مسيرة التدخل الأميركي في 4 قارات الأرض بـ"الحصاد المر". لم يدخل "العم سام" بلداً إلا وخرج منه مهزوماً، من دون تحقيق نتائج إلا في ما خصّ تدمير البنى التحتية والاقتصادية والاجتماعية وزَرْع أسس الصراعات والتناحر بين مكونات الشعب.
احتلال أفغانستان والانسحاب المذلّ مرحلتان في مسيرة الإخفاقات المدوية في التاريخ الأميركي الحديث، وشاهدان على أنَّ الحرب العدوانية الأميركية، وإن طال أمدها واشتدّ سعيرها، آيلة إلى الفشل والخسارة.
ملايين الجنود الأميركيين الذين زَجَّت بهم الإدارة الأميركية طوال 20 عاماً، ومئات مليارات الدولارات التي أنفقت على الحرب والاحتلال، كلّها إمكانيات هائلة سقط مفعولها في لحظة صعود آخر جندي أميركي إلى الطائرة من مطار كابول، لتنكشف أيديولوجيا الطغمة السياسية - العسكرية على عراء وخواء، يقول العقلاء الأميركيّون إنّهما سيؤسّسان لتغيير عميق في العقل الأميركي، في حال لم يرضخ أصحاب الضمائر الحيّة من الشعب الأميركيّ ومارسوا حقهم في مساءلة ومحاكمة الإدارات الأميركية المتعاقبة التي ارتكبت الفظائع بحق دول وشعوب.
تباشير النقمة والغضب تكتسح المجتمع الأميركي، وتلقي بثقلها على وسائل الإعلام ومراكز البحث وفي أوساط المثقفين والفنانين والسينمائيين، فأميركا لحق بها العار وهزمت، وهي الدولة العظمى عسكرياً واقتصادياً، وباتت موضع تشكيك وسخرية وتساؤلات حول ضحالة وخطل كل تلك السياسات التي حاولت إيهام الأميركيين بعظمة بلادهم وإنسانيتها ودفاعها عن الديمقراطية والعدالة في العالم.
فتح التاريخ على مصراعيه لمحاكمة الأيديولوجيا العسكرية للولايات المتحدة في كل تجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، ولم يعد ثمة مانع للدخول في نقاش جدي وساخن حول قيمة "الفكرة الأميركية" التي لطالما تغنّى بها مفكرو الحزبين الجمهوري والديمقراطي وما تفرع عنهما من مؤسسات ثقافية وفلسفية وفنية.
في الإعلام غير المرتبط بالدولة العميقة أول الغيث. الانتقادات التي كانت توجه إلى سياسات الحرب الأميركية المتعددة الوجوه في العالم تتحوَّل إلى إدانة ومطالبة ملحّة بدفع الثمن وتوزيع المسؤوليات الكارثية. وكما تسبَّب قتل جورج فلويد على يد الشرطة بانتفاضة في الوعي الأميركي، فإنَّ الهزيمة والخسائر البشرية والمادية الهائلة من دون الحصول على أي نتيجة تُذكَر ستشكلان المفاعل الأول لغضب شعبي وثقافي بدأت مراكز الأبحاث بدراسة مساراته وتعبيراته.
حين خسرت الولايات المتحدة حرب فيتنام، لم تكن التركة السوداء تقتصر على نحو 58 ألف قتيل، بل كانت الارتدادات في داخل المؤسسات الأميركية سياسياً وعسكرياً وثقافياً. فُقدت الثقة بالدولة، ونشأ نقاش عميق حول صورة الأميركي في الداخل والخارج، مع رجحان القناعة بفشل مفهوم التفوق والقيادة لصالح الإحساس بالدونية والوهن.
مع هزيمة أفغانستان، سيعود شعار "أميركا في طريق مسدود" الذي ساد بعد سقوط سايغون ورحيل الأميركيين عنها إلى ساحة الرأي العام، بحثاً عن الأسباب الحقيقية التي قادت الأمة الأميركية إلى هذا السقوط المدوي، وهو بحث سيواجه الكثير من المعوقات والتحديات، نظراً إلى خبرة الدولة الأميركية العميقة في تحريف وتزوير وقمع أيّ محاولة جدية للنهوض من المستنقع العدواني الذي يسبح فيه العقل الرسمي الأميركي.
هزيمة أميركا لن تحوّلها إلى مسار آخر غير التهيئة والإعداد لحرب أخرى بأسلوب وآليات أخرى، لكنَّها من شبه المؤكد أنها ستولد قناعة بعدم اليقين والتردّد والتشكيك بقدرتها ومكانتها ودورها.