التموضع الجزائري الآمِن بين المحاور الدولية والإقليمية
بالرغم من إعلان بعض الدول امتعاضها وعدم تقبّلها وخلافها مع توجّه السياسة الخارجية الجزائرية "غير المُتورّطة في حمام الدم في المنطقة"، إلا أن الجزائر حافظت على مسافة الأمان بينها وبين هذه الدول، وحافظت على علاقاتها الطيّبة مع الجميع ورفضت الانخراط في محاور معادية، وحافظت على حيادها في العديد من النزاعات ودعمت مساعي الدول لمكافحة الإرهاب، وكذا دعمها لحق الشعوب في مقاومة الاحتلال وتقرير المصير.
سمعنا جميعاً بمُقاربة صفر مشاكل صفر أعداء التي ضمنَّها صنّاع القرار في تركيا في إطار استراتيجيّتهم المُتعلّقة بالسياسة الإقليمية والحاكِمة للعلاقات الخارجية سواء مع جيرانها أو الدول الأخرى البعيدة جغرافياً، هذه المُقاربة التي انتهى الحديث والعمل بها بعد أحداث ما يُسمّى بالربيع العربي أي مطلع سنة 2011 حينما أصبح المحيط الإقليمي لتركيا مشتعلاً وأُسست محاور اقليمية ودولية قديمة - جديدة فرضت على تركيا أعداء كثراً في المنطقة ... لقد أَشَرتُ لمُقاربة صفر أعداء كمحاولة مني لربط هذه المُقاربة بدولة لم تتدخّل في أية أزمة إقليمية أو دولية ولم تصطفّ مع طرف ضد آخر، ودعمت مساعي الاستقرار والمصالحة بين الفرقاء داخل الدول التي تعيش حروباً أهلية أو أزمات أمنية، وأنا أقصد الجزائر التي اكتفت بحماية حدودها من نار الأزمات الأمنية لجيرانها في الشرق والجنوب، من دون أن تخوّل لنفسها عبور هذه الحدود خدمة لأيّ محور آخر، بالرغم من الدعوات التي وجّهتها بعض القوى الإقليمية والدولية للدولة الجزائرية للتدخّل في بعض الدول كليبيا واليمن وسوريا وغيرها، وبالرغم من اعتبار بعض الدعوات بما يمكننا أن نسمّيه أوامر كالتي وجِّهت لمصر والمغرب والسودان ودول أخرى للتدخل في اليمن على سبيل المثال ، وبالرغم أيضاً من المقابل والضغط الذي مورِس على الاقتصاد الجزائري بعد مؤامرة تعويم سعر النفط الذي أدخل الاقتصاد الجزائري المعول على هذه المادة لغرفة الانعاش لسنتين تقريباً ولا تزال انعكاسات هذه التطوّرات بادية ليومنا هذا.
كل هذه المؤشّرات تدلّ على سيادية القرار الجزائري، والقراءة السليمة لما يحدث من أزمات إقليمية، وكذا القرار النابع من المبدأ الجزائري القائِل بعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول مع الحفاظ على مبادئ أخرى كإلزامية مكافحة الإرهاب، وإمكانية تقديم الدعم الاستشاري والفني والتقني لمكافحة هذه الظاهرة التي عاشتها الجزائر ولم تتدخّل أية دولة لإنقاذها من براثن هذه الآفة طوال عشر سنوات، والتي وبالرغم من الجراح العميقة التي خلّفتها هذه الأزمة وعلى كل الأصعدة والمستويات ولكنها وَلَّدَتْ وعياً وتجربة كبيرة لدى الدولة الجزائرية بكل مركّباتها ومكوّناتها، وخرجت الجزائر بعد هذه الأزمة أقوى مما كانت بعد أن تزامن الظرف الزماني آنذاك بارتفاع أسعار النفط، وتزامنه أيضاً مع إصلاحات تقنية في المسار السياسي والتنموي الجزائري، وتزامن أيضاً مع عودة الجزائر للمنبر الأفريقي والأممي بعد سنوات من الغياب بسبب الأزمة الأمنية، وأيضاً عادت بقراراتها الجريئة والمعهودة ودبلوماسيّتها المُتألّقة في قراءة الأحداث وتحليل الظواهر وتقديم الآراء والقرارات العقلانية خاصة في ما يتعلّق بالأزمات الأمنية.
فتصريح وزير الشؤون الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة بأن الدولة السورية انتصرت على الإرهاب في حلب آنذاك، والذي أثار جدلاً إعلامياً واسعاً، لم يكن تصريحاً نابعاً من ميول عاطفية بل ينم عن قراءة انبثقت من تجربة تاريخية وفعلية، ومن معلومات دقيقة وتحليلات صائبة لما يحدث في سوريا، وكذا المُقاربة الجزائرية لما حدث ويحدث في كل من مالي وليبيا، وهي المقاربة التي تتضمّن ضرورة اِلتقاء وحوار الأطراف المتصارِعة في ليبيا، والمُقترَح الجزائري بإمكانية التوسّط بين الأخوة الفرقاء هناك والتأسيس لحكومة توافق ليبية، ووقف دعم الميليشيات بالسلاح والمال من بعض الدول التي تخدمها استدامة حال الصراع والنزاع في الداخل الليبي.
كانت هذه المُقاربة لتحلّ النزاع وتقضي على أسباب استدامته على أقل تقدير، ولكن الإرادة الدولية وخاصة من بعض القوى الدولية وأدواتها في المنطقة وقفت حائلاً من دون تحقيق هذه المبادرة، وتوسّعت رقعة سيطرة الطرف الثالث "تنظيم داعش الإرهابي" ليسيطر على محافظة سرت ويجعلها عاصمة له في ليبيا، ويسيطر على مناطق أخرى في وسط ليبيا وعلى مقربة من الحدود الجزائرية ليصبح التهديد الأمني مترامياً على طوال الحدود الجزائرية الليبية الشاسِعة جغرافياً.
وكذلك الحال في اليمن الذي كان فيه الموقف الجزائري داعماً لمبادرة المصالحة والحل السياسي بدل التدخّل العسكري الخارجي، الذي فاقم في الوضع الإنساني وفشل للساعة في تحقيق أي مكسب على الأرض، بعد حملتين عسكريتين تحت مُسمّيات عاصفة الحزم والتحالف الإسلامي، شاركت فيها العديد من الدول العربية والإسلامية، وانعكس هذا الوضع بالسلب على الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية التي أصبحت كل أراضيها تحت طائلة الاستهداف والقصف اليمني ... وكلنا نعلم بأن لهذه الحرب أهدافاً غير مُعلنة وعلى رأسها مضيق باب المندب، هذا المعبر الاستراتيجي المهم الذي كان ولا يزال يُسيِّل لُعاب القوى العالمية للسيطرة عليه.
ونظراً إلى ما سبق ذكره فالمواقف الجزائرية من حيث الشكل والمضمون كانت موفّقة إلى حدٍ بعيدٍ في تقييم هذه الأزمات، ولكن لكل شيء ثمن ومقابل، كيف لا وقد تلقّت الجزائر تهديدات مباشرة وأخرى غير مباشرة تستهدف أمنها واستقرارها، فبعد رفض الجزائر التدخّل في كل من سوريا وليبيا تلقّت تهديداً من وزير خارجية إحدى الدول العربية المعروفة بصلتها وعلاقتها بحلف الناتو والولايات المتحدة الأميركية، جاء في مضمون هذا التهديد نقل ما يحدث في بعض الدول العربية من أزمات أمنية إلى الداخل الجزائري قريباً، وكذا خفض أسعار النفط عبر إغراق السوق الدولية بهذه المادة، وكان الهدف من هذا الإجراء الإضرار باقتصاديات دول كروسيا وإيران وفنزويلا والجزائر، نظراً لمواقفها الرافضة للهيمنة الأحادية الأميركية على القرار الدولي وعلى السياسة الدولية بشكل عام.
وبالرغم من إعلان بعض الدول امتعاضها وعدم تقبّلها وخلافها مع توجّه السياسة الخارجية الجزائرية "غير المُتورّطة في حمام الدم في المنطقة"، إلا أن الجزائر حافظت على مسافة الأمان بينها وبين هذه الدول، وحافظت على علاقاتها الطيّبة مع الجميع ورفضت الانخراط في محاور معادية، وحافظت على حيادها في العديد من النزاعات ودعمت مساعي الدول لمكافحة الإرهاب، وكذا دعمها لحق الشعوب في مقاومة الاحتلال وتقرير المصير.
فالجزائر حافظت على علاقات طيّبة مع المملكة العربية السعودية كما حافظت على علاقتها مع قطر وإيران وتركيا، كما وفّقت في علاقاتها مع روسيا كما مع الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، كما حافظت أيضاً على دورها الفاعِل في إفريقيا وأبقت على مكانتها المحترمة في هذه القارة التي تنتمي إليها، كما رفضت تصنيف فصائل المقاومة الفلسطينية وحركة المقاومة الإسلامية في لبنان في قائمة الإرهاب في إطار المشروعين اللذين عُرضا على برنامج أشغال الجامعة العربية ، باعتبار هذه الحركات حركات مقاومة وتحرّر، كيف لا والجزائر تعي جيّداً من خلال تراكم تجاربها التاريخية الحافِلة بالأحداث وتجربتها الكبيرة، التفريق بين مُصطلحات الثورة والإرهاب والمقاومة والتحرّر.
إن الجزائر من خلال هذا الوعي يمكنها أن تلعب أدواراً دبلوماسية فاعِلة ورائِدة بشكلٍ أكبر وأعمق وفي كل المجالات ،السياسية كما ذكرنا آنفاً ، والدينية باعتبارها مهداً للوسطية الدينية والاعتدا ، من خلال إمكانية استضافتها واحتضانها لحوار الأديان والمذاهب كما كانت سنوات السبعينات والثمانينات ، من خلال إمكانية إعادة إحياء مُلتقى الفكر الإسلامي الذي احتضن كل المُفكّرين الكبار ورجال الدين العرب والمسلمين وغيرهم ، خاصة والظرف الحالي بما يحمله من تجاذبات وصراعات دينية ومذهبية ، يمكن للجزائر أن تلعب فيه دوراً رائداً في معالجة هذه الظواهر من خلال هذه الفعاليات التي بإمكانها أن تهدِّئ الأنفس وتُخمِد نيران الصراعات الدينية والمذهبية في العالم العربي والإسلامي ، والجزائر تحوز كل المقومات لأن تلعب هذا الدور الفاعِل.
كما يمكنها أن تنشّط آلية الدبلوماسية الاقتصادية في مجالها الحيوي الإفريقي، كأن تبادر إلى تفعيل وتنشيط الدبلوماسية في القارة السمراء لتجد أسواقاً إفريقية للسلع الجزائرية المَنتَجَة من طرف المؤسسات الاقتصادية والإنتاجية الكبيرة والمتوسّطة ، التي عمل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة طوال سنوات على تنشيطها ودعمها تقنياً ومالياً والتي تراكمت في الداخل الجزائري وعجزت عن تسويق سلعها في الداخل لأسباب مختلفة ، ما كلّف أصحابها الفشل والكساد في نهاية الأمر، ومن بوابة إفريقيا يمكن للجزائر أن ترسم لنفسها محوراً أبعد ما يكون عن المناطق المشتعلة ويخدم مصالحها ومصلحة شعبها ، ويُثبّت أمنها واستقرارها . كما يجب أن تحافظ على مسار سياستها الخارجية الحالية تجاه الأزمات والنزاعات الاقليمية والدولية.
وفي الأخير يمكننا أن نقول بأن الدبلوماسية الجزائرية حافظت على مكانة الجزائر المحترمة بين كل الدول بعيداً عن التجاذبات والنزاعات السياسية والإيديولوجية والمذهبية التي يعيشها العالم هذه الأيام، وهو ما يُحسَب لها ولرصيد مفكّريها وراسمي مسارها وتوجّهاتها لما تحلُّوا به من حكمة في التحرّك واتخاذ القرارات.