وراء كواليس وثائقي "الميادين" في كركوك
حين كنا نتواصل من بيروت لترتيب مكان للمبيت في كركوك، نصحنا بعض الأصدقاء هناك بأن لا نبيت في المدينة. فالوضع الأمني غير منضبط، والخلاف حاد بين القوى السياسية، والثقة ضعيفة بين المكونات الكردية والتركمانية والعربية. ففي تلك الفترة خطف عناصر داعش ضابطاً عراقياً من بيته، وقتلوا 7 من عائلته. وبعدها بأيام انفجرت سيارة مفخخة وسط مدينة كركوك، وقبل عدة أشهر تسلل عناصر من التنظيم إلى داخل المدينة واحتلوا فندقا ودارت بينهم وبين قوات البشمركة اشتباكات استمرت يوما كاملاً.
في أي مكان كنا نضع الكاميرا للتصوير. تتوجه نحونا خلال دقائق سيارات عدة. يجتمع حولنا الأهالي وبعض الشبان الحزبيين. نتعرض لتحقيق سريع حول هوية الفريق وأهداف التصوير. يرفض الناس الحديث إلى الكاميرا إطلاقاً. أما في الدردشات الجانبية، فالجميع قلق ومتوجس، يؤكدون استياءهم من الوضع التنموي والأمني للمدينة. ويعربون عن خوفهم من الأيام المقبلة في ظل المشاريع السياسية التي يصر بعض المكونات على فرضها بالقوة.
وخشية أن يتعرض إلينا أحد، أرسل معنا قيادي كردي مهم في كركوك عنصرين من حراسته الخاصة ليرافقونا أثناء التصوير. فالقوات الكردية هي من تسيطر حاليا على كركوك، ولا سيما بعد نجاحها في طرد قوات داعش من المدينة.
توجهنا لنأخذ بعض اللقطات على أطراف كركوك. وبعد بضعة دقائق طلب المرافقان مني ومن الزميل سليم ناصر الدين أن ننهي التصوير فورا ونصعد إلى السيارة، حاولت الاستفسار، فكان يشير إليّ أن أصعد على عجل. ركبنا السيارة، وقادها بسرعة. سألته: ما الذي يحصل؟ فأخبرني بأن صاحب المنزل الذي كنا نصور فيه، ركب في سيارته وتركنا في منزله وكان يتحدث على الهاتف بطريقة مريبة. اعتقد المرافق الكردي بأنه قد يكون يتحدث مع عناصر من داعش، فالتنظيم في قضاء الحويجة قريب جداً من المكان الذي كنا نصور فيه.
بعد نحو ساعة توجهنا لتصوير حقل بابا غرغر النفطي. كان بعض الشباب يلعبون في أحد الأحياء القريبة منه كرة القدم، فمازحني المرافق الكردي وقال لي: صدقني أن بعض هؤلاء حين تغرب الشمس، يتحولون إلى عناصر من داعش، فالتنظيم يتغلغل في المدينة، وكثير من الناس يتعاطفون ويتعاونون معه كرها بالكرد. وأخبرني أن قوات الأسايش تفرض عدم التجوال ليلاً في معظم الأحياء التي تقع على أطراف كركوك.
في اليوم التالي، ذهبنا إلى قيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني. دخلنا إلى مكتبه. الزجاج مكسور، وحالة من الارتباك تعم المكتب. سألته عن السبب، ففتح أحد الأدراج وأخرج رأس رصاصة استقرت في مكتبه، وأخبرني بأن أحداً ما استهدف المقر. في كركوك تحمي القوى والشخصيات نفسها من خلال ما يسمى "الأمن الذاتي"، أي أن كل حزب يحمي مقراته بنفسه من خلال عناصره. وطبعاً الحراسات مشددة وكبيرة.
في 18 من شهر آب/ أغسطس توجهت يوم الجمعة إلى مسجد النور الكبير في كركوك. حراسة أمنية مشددة على المساجد، والكنائس والمقرات الحكومية. طلبت من الضابط المسؤول أن يسمح لنا بالتصوير داخل المسجد، فرفض رفضاً قاطعاً. شكرته، ودخلت إلى المسجد للصلاة. تفاجأت بعد قليل بعسكري يربت على كتفي داخل المسجد وأنا أحضر خطبة الجمعة، ويطلب مني الخروج. ظننت أن الضابط سيسمح لي بالتصوير، فإذا به يطلب مني جواز سفري وإذن التصوير وبطاقتي الصحفية ويحقق معي. فابتسمت وقلت له: ألا يمكن أن يكون ذلك بعد الانتهاء من أداء الصلاة.
وفي حادثة أخرى، كنا نصور بعض اللقطات قرب مبنى المحافظة، فذهبت للضابط المسؤول عن أمن المبنى لأخبره بأني أصور قرب المبنى فقط ولا أصور المبنى، فطلب مني أن أحضر الكاميرا وبدأ بتفتيش اللقطات، واتصل بالضابط المسؤول عن المدينة ليتأكد إذا كان لدينا إذن بالتصوير. سألته عن السبب، فأخبرني بأن تنظيم داعش حين ينفذ عملية يعرض بعض الصور التي قام عناصره بالتقاطها للمدينة قبل تنفيذ العملية وبعدها.
ومن المشاهد التي تركت لدي انطباعاً غريباً، هو غياب التنمية على نحو كبير عن المدينة، وغياب فرص العمل، وعدم وجود منتزهات أو أماكن تصلح لأن يتوجه إليها الأهالي. فهل يمكن مثلا أن نتخيل أن مدينة كركوك العائمة على بحر من النفط، تعاني من أزمة وقود وكهرباء، ويباع النفط على الطرقات بعبوات المياه الفارغة، وهل يمكن أن نصدق أن الكهرباء كانت مقطوعة في منزل مسؤول النفط والطاقة، حين ذهبنا لإجراء المقابلة معه، وكانت درجة الحرارة نحو 45.
في وسط كركوك قرب القلعة والسوق الرئيسي للمدينة يمر نهر ملوث تحول إلى مكب للنفايات ومجرى للمياه الآسنة. سألنا عنه فقيل لنا إنه نهر خاصة أهم أنهر المدينة، وأحد شرايينها المائية. أما قلعتها الأثرية وقصورها التارخية البديعة التي بنيت قبل ثلاثة آلاف عام، فمقفلة أمام الزائرين، وتعاني من إهمال كبير من قبل المسؤولين، وتحتاج للكثير من الترميم.
يخبرك بعض وجهاء كركوك بأن الثروة النفطية كانت مصدر قلق لهم ولعنة، ولم يستفيدوا منها، وحولت المدينة إلى نقطة صراع دولي وإقليمي ومحلي، يدفع ثمنها المكونات العربية والتركمانية والكردية والمسيحية، قتلاً وتهجيراً.