الأزمات والانقسام يقودان غزّة نحو الانفصال
نحن الفلسطينيون مختلفون على كل شيء حتى على النشيد الوطني والعَلَم الفلسطيني والمشروع الوطني وعلى كتب التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية، مختلفون على شكل نظام الحُكم وأبجديات اللغة العربية وكتاب الأحياء حتى أصبحنا صرعى للألم والموت على وقْع فكّي كماشة إجراءات الرئيس محمود عباس وسنديانة ضرائب حركة حماس.
الحال في قطاع غزّة البائس تختلف عن جارته البعيدة في الجغرافيا وهي الضفة الغربية التي تعيش أوضاعاً سياسية واقتصادية مستقرّة ربما لمرحلة ما، وربما تتشابه إلى حد ما مع شتاته الفلسطيني، لأن قطاع غزّة أصبح جزءاً غريباً من المعادلة الوطنية الفلسطينية فهي مرتع لتجارة رابحة لأثرياء الانقسام والحروب على حساب حياة فقرائها الذين يرهنون حياتهم للزمن الصعب الذي لا يقف على الحياد معهم. غزّة أصبحت على حافة الهاوية وتعيش أرقاماً مخيفة في المأساة، وربما لم يُصِب الشاعر الفلسطيني محمود درويش عندما قال، عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ، عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين..
إن غزّة تجارة خاسرة للسماسرة فهي بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء، وعامل الزمن شيء آخر فهو ليس عنصراً محايداً، فهي التي عايشت ثلاث حروب في غضون عشر سنوات عِجاف من عُمر الانقسام الأسود، وتعيش اليوم صراعاً مؤسساتياً على أركان السلطة وتبحث عن شرعيّتها مع شطرها الآخر في الضفة الغربية ولا تدري هل تحصل عليها أم لا. الحياة في غزّة أصبحت لا تُطاق، أزمات بالجملة من دون حلول لها ولا مكاسب لأحد سوى لتجّار الانقسام والأزمات التي تعصف بها، فالتفاهمات بين حماس وخصمها اللدود سابقاً محمّد دحلان وتياره الإصلاحي، لم تؤدّ لتحسين الأوضاع الإنسانية في قطاع غزّة أو تحسين ظروف الحركة الإسلامية وخصوصاً بعد الأزمة الخليجية، بل تأزّمت الحياة المعيشية بعد الإجراءات العقابية التي اتّخذها الرئيس أبو مازن ضدّ قطاع غزّة ومنها التقاعد المُبكر وتقليصات الميزانية الشهرية والكهرباء، فمعبر رفح ما زال مُغلقاً أمام سفر المواطنين في غزّة والكهرباء تقلّصت لمستويات كبيرة، ونِسَب الفقر والبطالة والتلوّث البيئي وانعدام الأمن الغذائي والوظيفي في ارتفاع ملحوظ ومشاريع التشغيل متوقّفة على حالها وتتّجه الأوضاع نحو التأزّم الكبير.
إن كافة التقارير الدولية تشير إلى أن الحياة أصبحت بشكل مُتسارِع - قبل العام 2020- لا تصلح للعيش في غزّة، فكل شيء فيها يتغيّر نحو الأسوأ. ولكن سياسيوها اليوم أمام اختبار صعب في الوطنية فهي التي قاومت الاحتلال لا تقدر على مقاومة الانقسام والانفصال. الظروف في غزّة تندفع نحو الانفجار الذي لا هو موت ولا انتحار في حال تأخّر الانفراج، وسيندفع أبناؤها مرة أخرى نحو الألم والموت في صِراع الأزمات والانقسام لعلّه يكون الأمل لهم. إن المجتمع الفلسطيني مُنقسم على نفسه والانقسام يدخل مرحلة في غاية الخطورة تدفع بالقضية الفلسطينية نحو الانزلاق على طريق الانفصال الجغرافي الثاني بين الضفة وغزة ، الذي يتشكّل الآن على أرضية خصبة بعد الانفصال الأول بين الضفة وغزّة وأراضي الـ48 ، والشتات الفلسطيني الذي تعزّز بفعل اتفاق أوسلو والتنازل عن 78% من فلسطين التاريخية والاعتراف بشرعية إسرائيل من دون الاعتراف بفلسطين ، وتأجيل قضايا القدس واللاجئين والاستيطان إلى الوضع النهائي للتسوية.
فبدلاً من النضال من أجل الاستقلال والعودة وتوسيع حملة المقاطعة وجبهة الأصدقاء المُعادية لإسرائيل في كافة أرجاء العالم، فإن القادة الفلسطينيين يتنقّلون من بلد إلى آخر للحديث في المؤتمرات والمفاوضات الفلسطينية – الفلسطينية، لذلك نرى أن قطاع غزّة لم يكترث للتحرّكات واللقاءات السياسية الفلسطينية التي تشهدها العاصمة المصرية القاهرة في تلك الآونة التي ربما تمهّد الطريق نحو حلول لبعض أزمات غزّة من دون إنجاز المصالحة الوطنية بالكامل، لأن مواطني غزّة سئموا من مكوكية الحراكات التي وصلت جميعها إلى طريق مسدود ، ولا سيما التفاهُمات الأخيرة التي جرت بين حركة حماس والنائب محمّد دحلان- الفنكوش الجديد- ولم تنقذ غزّة من الكارثة الإنسانية رغم وعودات الانفراج الكثيرة التي لم يلمس سكان قطاع غزّة منها شيئاً سوى مزيد من الأزمات والكوارث. الكل الفلسطيني يدرك جيداً مخرجات الأوضاع الكارثية التي تعيشها الحال الفلسطينية جرّاء استمرار الانقسام وحال التيه والترهّل السياسي التي أوصلت المشروع الوطني الفلسطيني إلى الهاوية، وفي مقدّمها أن تبدأ حركة حماس بالتنفيذ الفعلي والفوري في حلّ اللجنة الإدارية ، بالتوازي يبدأ الرئيس محمود عباس بالتراجع عن خطواته العقابية التي تمسّ شرائح واسعة في قطاع غزّة، وتقوم حكومة التوافق الوطني بدورها وتستكمل اللجنة التحضيرية المُنعقدة في العاصمة اللبنانية بيروت في ـ10-11 يناير 2017 أعمالها وتنفّذ مقرّراتها بما فيها تشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة والتحضير للانتخابات الشاملة، بالمقابل على منظمة التحرير الفلسطينية أن تعلن انتهاء اتفاق أوسلو الذي انتهى فعلياً بعد انهيار مفاوضات كامب ديفيد عام 2000.
المشهد الحالي للقضية الفلسطينية في ظلّ السياسية الانحدارية لمشروع أوسلو وصل – حسب القول الشائِع- إلى مشهد سوريالي "احتلال بلا كلفة، وسلطة بلا سلطة، ورئاسة بلا ولاية".