كوبا: الإعتدال المستحيل
من يعتقد أن القيادة الكوبية هي من النوع "الـ غروباتشوفي الكاريبي" الذي لم يدرك بأن التنازلات في السياسة الخارجية سوف تقضي على الشرعية والدعم الداخلي، يكون قد سقط بمغالطة فادحة.
يبدو أن الحقائق لا تتفق مع من يحظى بشكل غريب ومريب بتدفق وسائل الإعلام الكبرى المعادية لكوبا.
كانت
السياسة الخارجية التي زعموا بأنها الدافع لشن الأعمال العدوانية ضد الثورة
الكوبية، مكوناً ثابتاً ومتكرراً في خطاب البيت الأبيض حول كوبا، وذلك حتى نهاية
الحرب الباردة.
وكان تحالف
كوبا مع الاتحاد السوفياتي السابق والدعم المقدم من قبل هافانا للحركات التحررية
في دول العالم الثالث ووجود الجيش الكوبي في أفريقيا دعماً لسيادة الدول التي
تواجه عدوان جيرانها المدعومين من قبل واشنطن، أموراً شكلت حججاً للولايات المتحدة
لتبرير سياستها تجاه هافانا.
وتم
استبدال تلك الذرائع آنذاك بالتشكيك في النموذج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي
الكوبي انطلاقاً من معزوفة الولايات المتحدة عن حقوق الإنسان والديمقراطية والتي
تترجم في قبول الرأسمالية التابعة و"التحالف" على قاعدة خدمة مصالح
الولايات المتحدة، وهذا سنراه واضحاً جداً لو قرأنا "القانون من أجل الحرية
والتضامن الديمقراطي الكوبي" الذي يُطبق حاليا أو قانون "هيلمس
بورتون" الذي وقعه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عام 1996.
وفي شهر
يناير/كانون الثاني 2014 تم إقرار وثيقة في قمة مجموعة دول أمريكا اللاتينية
ومنطقة بحر الكاريبي (سيلاك) هي عبارة عن إعلان هذه المنطقة
"منطقة
سلام والتزام من قبل دول أمريكا اللاتينية والكاريبي بالاحترام الكامل لحق كل دولة
في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي باعتباره الشرط الأساسي
لضمان التعايش السلمي بين الدول". إعلان كان بمثابة دعم للخيار
الإجتماعي الذي تدافع عنه كوبا، ورفض بالإجماع ، أي بما في ذلك حلفاء
الولايات المتحدة مثل المكسيك وكولومبيا، لمحاولة واشنطن لفرض نظام إقتصادي
رأسمالي ونظام سياسي بحسب الذوق الأمريكي.
والضربة
الأخرى الأقرب زمنياً لمحاولات الولايات المتحدة فرض نموذجها الذي يُشكك به على
نحو متزايد حتى داخل حدود الولايات المتحدة نفسها، كان الإتفاق على الحوار السياسي
والتعاون المشترك الذي تم التوقيع عليه مؤخراً في هافانا بين الجزيرة الثائرة
والإتحاد الأوروبي، الذي يعتبر الحليف الرئيسي لواشنطن، دون المس ولو من بعيد
بالسيادة الكوبية أو بمبدأ المساواة والتكافؤ بين الطرفين، وهو اتفاق اعترف بشرعية
النظام الداخلي الكوبي.
ومن ثم
تركز العدوان الأمريكي ضد كوبا على نظامها الداخلي، على الرغم من عزلة واشنطن في
المنطقة بسبب السياسة الخارجية الكوبية الناشطة والناجحة، فكان الإعتداء هذه المرة
عبر "الأكاديمية" الشهيرة التي تتغذى بمال الوكالة الأمريكية للتنمية
(يو أس آيد) في سعي للتأثير على المثقفين الكوبيين، على نسق مؤسسة أميركا الجديدة
(ناف) ، حتى أنه يُقال إن الأمر تخطى حدود عزلة الولايات المتحدة، ليصبح
"صراعاً كوبياً ليس فقط ضد الولايات المتحدة، بل ضد نظام دولي تتصدره
الولايات المتحدة بالأمر الواقع".
وما هو
السبب الذي يساق في هذا الإطار؟
"إن
النظام السياسي الكوبي والقيادة الكوبية لا يرتاحون للعالم بشكله الحالي ويفعلون
المستحيل لتغييره". هذا أذكى ما تفتقت عنه قريحة أحد جهابذة المركز المتخصص
بكوبا في الإدارة الأميركية، وهو كوبي الأصل، الذي اعتبر أنه لا يعقل أن تقوم كوبا
وهي "اللاعب الأضعف" في القارة بإحداث "تغييرات على رقعة شطرنج
تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية".
ووفقاً
للشخص عينه، "فمن الممكن تولي الولايات المتحدة مسؤولية السعي الى تحقيق نفس
الأهداف عبر وسائل اكثر إقناعا واقل سلطوية" والجواب لدى "قارىء
المستقبل الكوبي" في المركز الأميركي على هذا للسؤال: نعم، وسؤاله الثاني:
"هل ممكن أن تقوم كوبا بجعل أسلوبها هذا أكثر إعتدالاً؟"، بمعنى أن
العبقري الذي ولد في كوبا ولكنه يفكر باللغة الإنجليزية، إنه لكي تعود العلاقات
الكوبية – الأميركية، يترتب على الجزيرة حُكماً التخلي عن مبادئها الثورية
المعادية للأمبريالية.
ومع ذلك،
يبدو أن الحقائق لا تتفق مع من، على الرغم من مساره المتعرج، يحظى بشكل غريب ومريب
بتدفق وسائل الإعلام الكبرى المعادية لكوبا وللإعلام الكوبي، للحصول على تصريحاته
ومداخلاته.
فبعد الـ
17 من ديسمبر/كانون الأول 2014 ، أثبت الخطاب الكوبي، سواء على لسان الرئيس الكوبي
راؤول كاسترو في الأمم المتحدة وفي مجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة بحر
الكاريبي (سيلاك) والتحالف البوليفاري لشعوب القارة الأمريكية (البا)، وكذلك عبر
تصريحات وزارة العلاقات الخارجية الكوبية، النية بمواصلة الإصرار على تغيير النظام
الظالم الذي تسعى الولايات المتحدة لفرضه من خلال بسط هيمنتها على هذا الكوكب.
وان لم
تكن حجة المبادىء والقيم التي تستند عليها التجربة الكوبية كافيةً، لننتقل في
التفكير بطريقة أصبحت مألوفة في أيامنا أي "البرغماتية"، إذ يحضرنا
السؤال: ولماذا يجب على كوبا أن تغيّر موقفها؟، بل أن موقفها الصامد والمقاوم هذا
هو الذي أتاح لحكومة هافانا أن تحقق ما تم إنجازه في ذلك الـ 17 من ديسمبر/كانون
الأول وعزل الولايات المتحدة قبل ذلك التاريخ، ومن ثم بعده حصلت كوبا على تصفيق
وترحاب أصوات متنوعة لعدد كبير من الشخصيات مثل البابا فرانسيس والبطريك كيريل والرئيس
الفرنسي فرانسوا هولاند.
وتتالت في
الأسابيع الأخيرة التصريحات الكوبية استنكارا وتنديداُ بالهجمة اليانكية على
فنزويلا، وبعملية اغتيال الناشطة الهندوراسية عن الهندود الأصليين بيرتا كاسيريس،
ودعماً للرئيس البرازيلي السابق لويس ايناسيو لولا دا سيلفا وللحكومة البرازيلية
الحالية بقيادة ديلما روسيف، وتعزيزاً للعلاقات الكوبية القوية مع قضايا كبرى
كفلسطين والصحراء الغربية واستقلال بورتوريكو.
ومن يعتقد
أن القيادة الكوبية هي من النوع
"ال غروباتشوفي الكاريبي"،
الذي لم يدرك بأن التنازلات في السياسة الخارجية سوف تقضي على الشرعية والدعم
الداخلي، يكون قد سقط بمغالطة فادحة.
وبوضوح
برّاق أزعج بأشعته العيون الأوبامية الإستوائية الدامعة (نسبة للمناخ الإستوائي
والمداري في أميركا اللاتينية)، أتت المقالة الإفتتاحية لصحيفة الـ "غرانما"
والتي حدّدت الحكومة الكوبية من خلالها موقفها الواضح بخصوص زيارة رئيس الولايات
المتحدة، رامية في المزبلة ذلك الإقتراح المقدّم من قبل "الأكاديمية
الأميركية لمساعدة وتمكين الغير" من
صنع (ناف) بأن تتغير كوبا لتصبح
"اكثر اعتدالا" (وهو
المصطلح الممجوج الذي أصبح معروفاً من قبل الجميع) في مقابل أن تسعى
واشنطن "لنفس الأهداف عبر وسائل اكثر إقناعا واقل سلطوية".
ومما
قالته صحيفة غرانما، وصدقوني بأنني اشعر بالأسف تجاه هؤلاء الأوباميين الجهابذة،
"إن
إلتحام كوبا اللامتناهي بمثلها وقيمها ومبادئها الثورية والمعادية للأمبريالية
ولسياستها الخارجية الملتزمة مع القضايا العادلة في العالم، ومع الدفاع عن حق
الشعوب في تقرير مصيرها وعن دعمها التقليدي للدول الشقيقة هو من المسلمات التي لا
يرقى اليها الشك إطلاقاً".