حرب أكتوبر: النصر الذي هزمنا سياسياً

في الوقت الذي قصمت فيه هزيمة 67 ظهر المشروع القومي التنموي، كان يُفترض ب " انتصار أكتوبر" عام 73 أن ينتشل هذا المشروع من كبوته ويأخذه خطوات إلى الأمام. ولكنه على عكس ذلك شكّل مرحلة سياسية مُختلفة بالكامل عن سابقتها، سواء على صعيد العلاقات العربية ــ العربية أو على صعيد رؤية العرب وتعاملهم مع عدوّهم التقليدي " إسرائيل"، وهي مرحلة لا زلنا نعاني آثارها حتى يومنا هذا.

"لا يمكننا أن ُنحيل سبب كل التغيّرات التي حصلت في وطننا العربي للعبور الساداتي في نفق كامب ديفيد".

جاءت  " النكسة" بعد أن علَّق العرب آمالاَ عريضة على حرب تُخرجهم من آثار " النكبة " إن لم تكن طريقاً لاستعادة فلسطين. لذلك فتحت تلك الهزيمة شهيّة كل من أمريكا و" إسرائيل" لابتزاز مصر سياسياً واستغلال حال الضعف وفقدان الثقة المتوقّع أن تُصيب كامل الجسم السياسي العربي ووحدته تحت المشروع الناصري. ولكن على عكس المُتوقّع، خرج الشارع العربي رافضاً تسليم عبد الناصر بالهزيمة من خلال رفض تنحّيه عن الحُكم، وهو موقف وجدَ صداه في " قمّة الخرطوم" الشهيرة باللاءات الثلاثة: " لا صلح، لا تفاوض لا اعتراف".

هذا لا يعني أن آثار تلك  الهزيمة زالت فور ولادتها، ولكن هذه اللاءات شكّلت حصناً للوعي العربي الذي ظلّ يرفض أن يتحوّل وجود الاحتلال إلى وجود طبيعي. وكانت رفضاً ضمنياً لأية مشاريع قد تقول دعونا نتحوّل من الرفض والحرب إلى القبول والتفاوض. لذلك تم استئناف حال التعاون العربي المُشترك سياسياً واقتصادياً وعسكرياً للإعداد لحرب جديدة بدأت فور الهزيمة عبر حرب استنزاف. وهو التعاون الذي أثمر النصر العسكري لحرب أكتوبر عام 1973.

تضخّمت ثقة الإسرائيليين بذاتهم بعد أن هزمت جيوشاً عربية في أيام قليلة، واحتلت أراض ٍلثلاثة بلاد منها. في حين كان العرب يحبسون أنفاسهم ويعدّون أنفسهم لمعركة طويلة وصعبة جداً.  لكن جاء عبور " خط بارليف" سهلاً نسبياً، ودخل الجيش المصري حوالى 20 كلم في عُمق أراضيه التي فقدها عام 67. وعن هذا الأمر سال الكثير من حبر الدراسات والمذكّرات. ولكن ما يهّمنا هو التعامل السياسي للرئيس المصري آنذاك أنور السادات مع هذه الإنجازات وكيف انعكس هذا التعامل على مستقبلنا وعلاقتنا بالعدوّ التقليدي.

فقد سادت خلال أيام الحرب خلافات كثيرة بين الرئيس المصري وقادة جيشه في كيفية التعامل مع مُعطيات الميدان، لأنه كما يبدو كانت له أهدافه من هذه الحرب التي تختلف عن أهداف القادة العسكريين والعرب من محيطهم إلى خليجهم. وقد عبَّر عن هدفه هذا بكلمات واضحة  حين قال بأن هذه " حرب تحريك". أي أنها حرب من أجل التفاوض على حل سلمي، وليس من أجل قضية العرب الأولى. وهو ما  شكّل خروجاً على قرارات " قمّة الخرطوم". والمُثير هنا أن السادات قد اتّخذ قرار القبول بوجود " إسرائيل"  كحقيقة واقعة حتى قبل بدء معركته معها. والمُثير أكثر أن يتمسّك بهذا الهدف بعد أن فتح له جيشه الطريق أمام نصرٍ كان يُمكن أن يقلب قواعد اللعبة التي فُرضَت على العرب نتيجة لهزيمة عام 67.

بوتيرة مُتسارِعة استدار الرئيس المصري من المُعسكر السوفياتي الاشتراكي باتّجاه المُعسكر الرأسمالي الأميركي، حين قام بطرد الخبراء السوفيات قائلاً بأن " 99 بالمئة من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة الأمريكية". وجميعنا نعلم ماذا حصل بعد ذلك، فقد ذهب لزيارة الكيان الإسرائيلي حتى قبل توقيع اتّفاقية سلام معه متوّجاً مسعاه هذا بتوقيع اتّفاقية " كامب ديفيد" عام 1979. ولا نُبالغ حين نقول بأنها الاتّفاقية التي كانت آثارها أقسى علينا من " النكسة". إنها الهزيمة التي ولِدَت من رحم انتصار عسكري لم يَرد له السادات أن يكتمل.

بهذه الاتّفاقية استفاقت " إسرائيل " من كابوس لتعبر حلماً لم يراودها في أشدّ مراحلها تفاؤلاً. فالدولة التي كانت عدوّها الأول اللدود، والجامعة للعرب تحت مشروع تحرّري نهضوي واحد، والتي مثّلت لحوالى ثلاثين عاماً سدّاً منيعاً أمام أية محاولة تسوية سياسية، باتت  بوابة للتسلّل إلى الجسم العربي سياسياً واقتصادياً. فلم تمض ِسنوات قليلة حتى وقّع كل من الأردن والفلسطينيون اتّفاقياتهما. ومنذ ذلك التاريخ لم يعد عداء دولة الاحتلال  نقطة إجماع على المستوى العربي الرسمي بقدر ما أصبحت شرخاً في الرؤية والسياسة العربية بين اعتدال ومُمانَعة.

وهذا الشَرخ لم يقتصر على العلاقة العربية الإسرائيلية المُجرّدة بقدر ما بات صفة لمُجمل السياسات العربية الداخلية  من جهة، والدولية وتحديداً تجاه الغرب من جهة أخرى. حيث انهارت المفاهيم التقليدية التي تربَّت عليها الأجيال العربية طوال العقود الماضية، وتضافرت جهود من نَظّر وعَمِل من أجل " السلام" على صوغ وعي عربي جديد ينطلق من مبدأ أولوية الدولة العربية القُطرية ومصالحها على حساب المعركة العربية المُشتركة. وقد كانت اتّفاقية " أوسلو" تحديداً الانعطافة التي سهّلت تسويق هذه البضاعة عندما دخل الفلسطينيون في مفاوضات ثنائية مُنفرِدة بمعزل عن " دول الطّوق" وخاصة سوريا.

لا يمكننا أن ُنحيل سبب كل التغيّرات التي حصلت في وطننا العربي للعبور الساداتي في نفق " كامب ديفيد". فهنالك أحداث دولية وإقليمية كبرى وقعت وكانت سبباً في تعميق ما يُمكننا تسميته ب " النهج الساداتي"، منها انهيار الاتّحاد السوفياتي وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وهما حدثان وقعا في عقد الثمانينات،  وكان لهما الأثر الكبير في التحوّلات التي نتحدّث عنها سياسياً واقتصادياً. ولكن ذلك النهج كان نقطة التحوّل الأولى والكُبرى في هذا الطريق. فالسياسيات الاقتصادية الليبرالية للدول العربية وذوبانها في النظام الدولي الأمريكي من دون أهداف وطنية مُشتركة، لا يمكن تحليلها من دون العودة لتلك المرحلة الساداتية. فهو أول من دشّن مرحلة الانفتاح الاقتصادي التي غيّرت تركيبة المجتمع المصري الاقتصادية والاجتماعية.

انطلاقاً مما تقدّم، يُمكننا القول بأن الحرب الدائرة في سوريا اليوم ، ستمثّل نتائجها التي لم تُحسم حتى الآن بشكل نهائي، انعطافة جديدة إما بالاستمرار في هذا الطريق أو الخروج عنه ورفضه. وهي مرحلة دقيقة وخطيرة نعيشها، حيث انتقل الوعي العربي من مرحلة " القُطرية" التي تحدّثنا عنها لتتدهور اليوم إلى ما هو أسوء من ذلك وهو " الوعي الطائفي". وذلك  يصبّ بالنهاية في صالح أن يصبح الاحتلال الغريب والمرفوض واقعاً مقبولاً، في حين يتشرذم الجسم مالك التاريخ واللغة والعدوّ والهدف المُشترك أكثر ويصبح غريباً عن نفسه يُصارعها ويَصرعها.