قوارب الموت السوداء في الجزائر

الهجرة غير الشرعية والتي مسَّت مختلف شرائح المجتمع وطبقاته وارتكزت على فئة الشباب منها بالخصوص، ظاهرة سرت كالسُّم في الجسد المريض وأصبحت من أهم الأسباب التي تؤدّي إلى فقدان مئات وربما الآلاف من خيرة شباب الوطن وشاباته لحياتهم. فقوارب الموت التي يرى فيها الكثير من هؤلاء بصيصَ أمل للانتقال إلى الضفة الأخرى من المتوسّط حيث الجنّة الموعودة كما يصفها العديد منهم، ورغم اختلاف الطبقات الاجتماعية وتباينها وكذلك المستوى التعليمي والثقافي لمُقدّمين على ركوب الأمواج في قوارب مخصّصة في معظمها لصيد الأسماك وليس لسفر إلى مسافات بعيدة، ورغم الأخطار والمصاعب والمطبّات، تبقى أوروبا ودول السَّاحل الجنوبي لها كفرنسا وإسبانيا وايطاليا محجّهم وغايتهم التي يبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل الوصول إلى ضفتها.

الحرمان وعدم التوزيع العادل للثروة يلعبان دوراً هاماً ومحورياً في تكوين ظاهرة الهجرة غير الشرعية

المهاجرون غير الشرعيين في قوارب الموت السوداء لا يلقون بالاً لتحريم الدِّين الذي يجعل المخاطرة بالنفس والمغامرة بها غير المحسوبة من الكبائر، إذ يقول تعالى "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، بل يرَوْن في هذا النوع من الزجر والتحريم شيئاً ثانوياً، لأنَّ اليأس يكون قد بلغ منهم مبلغه، ولا يرون سبيلاً للفكاك سوى الهجرة غير الشرعية، لأنَّ الهجرة الشرعية تتطلّب الكثير من الإجراءات القانونية والمعاملات الإدارية المعقّدة، وتحتاج إلى الكثير من الأموال التي لا يمتلكها أغلب من يُقدِم على هكذا عمل غير محسوب العواقب والتبعات. 

ويُرجع الكثير من المُحلّلين النفسيين وعلماء السيكولوجيا والاقتصاد أسباب هذه الظاهرة الخطيرة إلى مجموعة من الأسباب، ربما أهمها الفقر والبطالة والرغبة في تحسين المستوى المعيشي للشَّباب، بالإضافة إلى الرغبة في المغامرة والانطلاق في الحياة والهروب من الحياة الاجتماعية القاسية والملل والرّوتين، وبعضهم يلجأ إلى الهجرة غير الشرعية للهروب من المُتابعات القضائية، ومحاولة لتقليد أحد معارفه الذين وفّقوا في بلوغ وجهته التي حدّدها سلفاً، والرغبة في الحصول على الإقامة الدائمة في أحد بلدان أوروبا والزواج بأوروبية التي يراها بعض الشباب الحور العين المنتظرات هناك، بالإضافة إلى أسباب أخرى عديدة لا يتّسع المقام لذكرها جميعاً. 

ويُعرّف القانون الجزائري حسب الأمر رقم 66 /211 المؤرّخ في21 تمّوز/ يوليو 1966 الهجرة غير الشرعية بأنها دخول شخص ما التراب الوطني بطريقة سرّية أو بوثائق مزوّرة، بنيّة الاستقرار والعمل أو بنيّة الانتقال إلى بلد ثالث، مثلما هو واقع في دول المغرب العربي وأوروبا حالياً. 

ورغم العقوبات القانونية الصارِمة التي تُطبّق على المهاجرين بطريقة سرّية، كالأمر 175مكرّر والذي سلطَّ على هؤلاء عقوبات تتراوح ما بين شهرين إلى ستة أشهر حبس نافذة، وغرامة مالية من مليوني إلى ستة ملايين سنتم على الشباب المُهاجِر بطريقة غير شرعية أو الأوصياء عليهم إذا كانوا قصّراً، ولكن الإجراءات الرّدعية يبدو أنها غير نافِعة في ردع الكثير من الشباب عن تجريب حظِّهم في السفر إلى المجهول، فحسب إحصاءات وزارة التضامن الوطني في عهد السيِّد جمال ولد عباس إلى أنه في سنة 2007 حاول أكثر من 1500شاب أن يجرّبوا حظّهم في الهجرة بطريقة غير قانونية. وفي نفس السنة تمكّنوا من إنقاذ حوالى 1568 شاباً كانوا مرشّحين لهجرة غير شرعية، من بينهم 1300 شاب واجهوا خطر الموت المُحقَّق، وتمَّ إنقاذهم من سواحل مدن عنابة ووهران بالأساس، فالارتفاع المُطرَد في نِسَب الظاهرة يُنذر بأنها ستتحوّل إلى ظاهرة اجتماعية تُلقي بظلالها السّلبية على مسارات التنمية الوطنية، باعتبار أنَّ الشباب هم محرّك وديناميكا الاقتصاد الوطني وصمّام أمانه مستقبلاً.

وبحسب الدكتور محمّد رمضان، وهو أستاذ الأنثروبولوجيا والجريمة بقسم الثقافة الشعبية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة تلمسان، فإنَّ الحرمان وعدم التوزيع العادل للثروة يلعبان دوراً هاماً ومحورياً في تكوين هذه الظاهرة وبناء معالمها، لذلك على الدولة بمختلف هياكلها وشرائحها ومؤسّساتها القانونية والدستورية أن تعمل على خلق فُرَص العمل والتوزيع العادل للثروة وإعادة هيكلة الشباب اليائس البائس الذي فشل في مسارات الدِراسة أو العمل، والعمل على التوعية والتحسيس بمخاطر الهجرة غير الشرعية وإشراك الديوان المركزي لمكافحة الهجرة السرّية في هذه العملية، وإقامة مؤتمرات وندوات جهوية وولائية ووطنية وخاصة في المدن الساحلية التي تُعتبر بوابة زيوس التي تؤدّي إلى الهلاك في هذه الحالات، وتقع مسؤولية كبرى على الأهل في مراقبة أبنائهم وتوعيتهم والعمل على تنبيههم لخطر هذه الظاهرة وانعكاساتها السلبية فردياً وأسرياً ومجتمعياً. لأن الأسرة هي مربط الفرس وركابه والمسؤولة عن مكافحة هذه الظاهرة بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني المختلفة طبعاً.