المـــــــلك والإخـــــوان في المغرب: الصَراع الناعم

أقدمت المؤسّسة الملكية في المغرب على تعديل دستور 1996، مما مكّن حزب العدالة والتنمية من قيادة الحكومة المُنبثقة من اقتراع 25 نوفنبر 2011؛ بعدما تصدر نتائجها. وقد تشكلت الحكومة السالفة الذكر من خليط حزبي هجين؛ تفاعل فيه الإسلام السياسي وبعض الشيوعيين التقليديين واليمين المحافظ وجزء من أحزاب الإدارة. وذلك في خضّم الانتفاضات ذات "المثل الثورية"، التي شهدها المغرب، شأنه شأن بعض الأقطار العربية، والتي تم حرفها، في المحصّلة، عن أهدافها في تحقيق الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، وجعلها أداة لخدمة أجندة أجنبية لتفكيك الأوطان، عبر إذكاء التطرّف والاقتتال الداخلي، على أسُس طائفية واثنية قذرة.

أكثرَ أعضاء الحزب من استعمال مفهوم التحكّم!!، بالموازاة مع تغلغلهم داخل مفاصل الدولة
لكن ما ميّز حكومة الإخوان الأولى والثانية خلال الولاية التشريعية 2011-2016، أثناء إدارتها للشأن العام، هي تلك الإجراءات القاسية، التي اتّخذتها ضدّ الشرائح الوسطى والفقيرة. ومنها رفع أسعار بعض المواد الاستهلاكية: مثل المحروقات، رغم الانخفاض الذي عرفته على المستوى الدولي، والرفع من سنّ التقاعد وإصلاح صندوق المقاصّة الذي كانت له تداعيات سلبية على قوت المواطنين، والاقتطاع من أجور المُضربين عن العمل، خارج الأطر القانونية، وتهميش النقابات وإذلالها سياسياً وقمع الحريات وتنامي الفساد داخل الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية وعدم تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.

مقدّمات الصراع الناعم:

تناغمت الإجراءات الاقتصادية التي اتّخذتها حكومة الإخوان مع توصيات المؤسّسات الدولية، وعبّرت سياسياً عن صراع ناعم بين أطراف الحكم، كان من تجلياته:

أولا: انحدار الخطاب السياسي، من خلال تلك المصطلحات الساقطة في بعض الأحيان، التي وظّفها رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران، بعنجهية مُفرطة، ضدّ كل من خالفه الرأي، بشكل أثار انتباه الجميع. ومن ذلك اتهامه لجهات معلومة/ مجهولة بالتحكّم وعرقلة عمليات الإصلاح التي تقودها حكومته.!! 

ومن بين هذه الجهات؛ بعض مستشاري الملك، وبعض رجال السياسة، مع الاستمرار في تسويق خطاب سياسي راديكالي وكأنه في المعارضة، ما جعل العديد من المتتّبعين يتساءلون عن من يحكم في المغرب ؟؟!!، خاصة بعد أن أكثرَ أعضاء الحزب من استعمال مفهوم التحكّم!!، بالموازاة مع تغلغلهم داخل مفاصل الدولة. 


مقابل هذا، استمر بن كيران في توظيف الخطاب الديني، بطريقة متواترة، إلى جانب تمجيد الملك والتزلّف له، بل بلغ به الأمر إلى حد التنازل عن بعض من صلاحياته الدستورية لصالحه. والهدف ها هنا، هو كسب ثقته ومحاولة عزله عن محيطه، حسب بعض المتتّبعين.

ثانياً: فهمت المؤسسة الملكية، حسب البعض، التكتيك الإخواني الجارف نحو "التمكين"، خاصة وأن تاريخ التنظيم الأمّ حافل بالتذبذب والانقلاب السياسيين، فرد الملك بخطابات نارية؛ كان أبرزها ذاك الذي تساءل من خلاله عن الثروة، وإصلاح الإدارة...إلخ، مجدّداً دعوة الحكومة إلى اتّخاذ إجراءات ملموسة لمعالجة الأوضاع المتردية. إضافة إلى هيمنته المستمرة على المشهد الداخلي والخارجي، بل وصل الأمر إلى درجة أن ردّ بشكل غير مباشر على بن كيران، من خلال دعوة جميع الأحزاب إلى الثقة في المؤسسات الدستورية وأنه ملك جميع المغاربة وفوق كل الأحزاب وأن مستشاريه لا يتحركون إلا بإمرته. وقد تكلل ما سبق، بتكليف بن كيران بتشكيل الحكومة الجديدة، بعدما تصدّر حزبه انتخابات مجلس النواب ليوم 07 أكتوبر 2016، ب 125 مقعداً. عندها تنفّس الإخوان الصعداء، لكنهم أخفقوا في تشكيل هذه الحكومة، بعد مشاورات وتصريحات واتهامات، دامت لأكثر من خمسة أشهر.

الإخوان في دائرة الملك:


بعدما عجز بن كيران عن تشكيل الحكومة تدخّل الملك، مؤولاً الدستور الذي لم يتحدّث عن هذه الواقعة، من خلال الصلاحيات التي منحها له الفصل 42، وقام بإنهاء تكليف بن كيران وكلّف الرجل الثاني سعد الدين العثماني رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، بتشكيلها من جديد.

وللإشارة فإن الفصل 47 من دستور فاتح يوليوز 2011 لم يتحدّث عن فترة تشكيل الحكومة وحيثيات ذلك، وإنما تحدّث عن ضرورة تعيين الملك لرئيسها من الحزب السياسي الذي تصدر نتائج انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها وتعيين باقي أعضائها باقتراح من رئيسها. والتعيين بطبيعة الحال، يأتي بعد التكليف، أي بعد نجاح عملية تشكيل الحكومة من طرف من كلّف بذلك. بمعنى أن تعيين رئيس الحكومة وباقي أعضائها من طرف الملك، يترتب عنه عرض البرنامج الحكومي من طرف رئيسها أمام انظار مجلسي البرلمان، ليتم تنصيبها بعد حصولها على ثقة مجلس النواب (الفصل 88 من الدستور).
وهذا ما لم يحصل مع بن كيران، ذلك أن تكليفه لم يفض إلى تعيينه، لأنه لم ينجح في تشكيل أغلبية حكومية. لذلك لجأ الملك، بناء على الفصل 42 وانسجاماً مع الفصل 47، إلى تكليف سعد الدين العثماني، وبقي بذلك ضمن المحدّدات الدستورية القائمة؛ التي شكلت وستشكل عائقاً حقيقياً ما لم يتم تعديلها، لأنها لم تتطرّق إلى الآجال التي يجب أن تشكل فيها الحكومة، من ناحية كما لم تقدم بدائل أخرى في حال إخفاق الحزب الذي تصدر الانتخابات في تشكيلها، من ناحية ثانية.
لكن هذا الغموض الدستوري، في صالح المنظومة الرسمية، التي  تعرف جيداً أن حزب العدالة والتنمية اذا تقوى سيرفع من سقف مطالبه، وتعرف أيضاً أنه القوة السياسية المنظمة التي تعمل من داخل الشرعية وتوظف الدين بطرق ناعمة؛ ولها جمعياتها المدنية الخاصة بها وذراعها الحركي المهيمن؛ التوحيد والإصلاح وكذلك ذراعها النقابي الوازن؛ الاتحاد الوطني للشغل، وذراعها الطلابي؛ منظمة التجديد الطلابي. 

في المقابل، فإن التداعيات السياسية لتكليف سعد الدين العثماني، ستنعكس سلباً على قوة هذا التنظيم. على اعتبار أن بن كيران، حسب المعلن، كان ينفذ توصيات الأمانة العامة للحزب، التي كانت بدورها تنفذ توصيات مجلسه الوطني. وبالتالي فنجاح العثماني، وإعلانه عن تشكيل ائتلاف حكومي، من ستة أحزاب، بما يناهز 240 مقعداً من 395 مقعداً، وفي ظرف وجيز يقود إلى طرح ما يلي:

- إما أن بن كيران كان يقود المفاوضات بشكل أحادي وبالتالي فالإخفاق إخفاقه وليس إخفاقاً للحزب، أو أن العثماني شكل هذا الائتلاف بشكل انفرادي ومن ثمة فنجاحه ليس نجاحاً للحزب؛ 

- وإما أن هناك تيارات داخل الحزب، لها وزنها وعلاقاتها، ساعدت العثماني وأفشلت بن كيران؛ خاصة بعد مشاركة الاتحاد الاشتراكي، الذي اعترض عليه بن كيران بقوة.
لا شك أن هذه الأحداث، ستضر بمصداقية أجهزة حزب العدالة والتنمية، وستقود كذلك إلى التساؤل حول عمليات اتخاذ القرار داخلها. وبوادر ذلك، بدأت تظهر إلى العلن، من خلال التصريحات والتدوينات الصادرة عن بعض قيادييه، والتي زادت بعد تعيين الملك لأعضاء الحكومة يوم 05 أبريل الجاري. لكن البعض الأخر من هؤلاء القادة لجأ إلى توظيف خطاب ديني راديكالي، للتغطية على ما حصل/يحصل، لخلق الاعتقاد لدى قواعد الحزب، أنه لا يزال على "الخط" المفترض؛ خط "حلف الفضول" كما قال نائب الأمين العام للحزب، رغم أنه وقع في المحظور، وكشف عن طبيعة الحزب غير المرغوب فيها !!

كل ما تقدّم، نتج منه تذبذب عملاني وغموض سياسي، سهل التحكم في هذا التنظيم وتقليم ما بدأ من أظافره. ذلك أن عدد المشاركين في الانتخابات لم يتجاوز ستة ملايين و750 ألفاً، من ما يناهز15 مليونا و700 ألف مسجل في اللوائح الانتخابية، بينما النسبة الحقيقية للمغاربة الذين يحقّ لهم التصويت في الانتخابات يقارب 26 مليوناً، من ما يقدر ب 34 مليوناً، بحكم أن كل من هو فوق سن 18 يحق لهم التصويت. فيما عدد مليون و600 ألف صوت تقريباً، التي حصل عليها العدالة والتنمية لا تخوّله التأثير في مسار المنظومة القائمة؛ خاصة وأن أجنداته ذات طبيعة أخلاقية أكثر منها سياسية أو اقتصادية، رغم أنه يبقى القوة السياسية الرسمية المنظمة، التي ساعدها توظيف الدين في تكوين قاعدة متماسكة، عكس باقي الأحزاب المنافسة له، التي تفتقد إلى الخلفيات الإيديولوجية والمشاريع السياسية المؤثّرة.