قبل أن يصل السوس إلى براعمكم..عودوا إلى مصر
اتركوا أفكاركم، وأيديولجياتكم في الحاضر، ولا تشوّهوا التاريخ، فتدمّروا الأجيال القادمة. وعودوا بعروبتكم إلى حضن مصر قبل أن يصل السوس إلى البراعم.
وفضلاً عن هذه المرارة، شعرت بالأسى من ثقافة الكراهية التي انتشرت بين قطاع واسع من شبابنا العربي، نصف الحاضر وكل المستقبل. وهي ثقافة بدأت مع القطيعة التي جرت مع مصر بعد توقيع الرئيس الأسبق محمّد أنور السادات (اتفاقية كامب ديفيد) مع الكيان الصهيوني برعاية أميركية عام 197. والواقع أن هذه القطيعة لم تكن مع النظام السياسي فحسب، بل كانت مع الشعب المصري، ووصلت إلى حد تشويه رموزه الفكرية والأدبية والفنية. ولقد لامست، وعايشت هذا الأمر، وقتما كنت منضوياً في صفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان وسوريا خلال العقد الثالث من عمري ، كشكل من الاحتجاج العملي على اتفاقية كامب ديفيد.
ولا نقتبس من السادات هنا، بقدر ما نستقرىء التاريخ بصورة عميقة، حين نقول إن العروبة ولدت في مصر، حيث كان لقاء نبيُّ الله إبراهيم وهاجر. وربما كان للوحيّ رمزيّة فلسفية، حين يؤمَر إبراهيم بوضع ابنه إسماعيل – أبو العرب، وأول أنبيائهم - في وادٍ كان غير ذي زرع، فيُزرع ويزدهر بوجوده. وهذه معادلة حاسمة يجب ألا ينساها كل مُريد لخير المنطقة. فكما أن الإسلام، الذي قبلت به مكّة، وصار دين المنطقة الرسمي، والحافظ لها الخصوصية، والفرادة، والحاضن لتنوّعها الفكري والديني والعرقي، فإن العروبة التي تولّدت في مصر هي الحاضن أيضاً للمنطقة، ولا يمكن أن تقوم لها قائمة من دون هذا الحاضن المصري العربي. ومتى اجتمع عنصرا الأمّة هذان، انطلقت نهضتها وعادت حضارتها. فالانقلاب على العروبة، لم يعد، في الفترة الأخيرة، حديثًاً مصرياً فحسب، بل صار شأناً من شئون المنطقة العربية، وتصاعد ذلك مع النزاعات الطائفية، فتعالت نبرة التحزّب الديني على حساب اللغة القومية الجامعة. ولكنني لا أغفل أن ظهور نبرة الفرعونية المصرية كبديل عن القومية العربية، بعد توقيع كامب ديفيد، وتبنّيها من بعض المثقّفين المصريين آنذاك، كان له الأثر الأكبر في النفوس، وهو المسؤول الأول عن تغذية روح التفرّق والانهزام العربي.
وجاء الهجوم، من بعض الأنظمة العربية آنذاك، على مصر، ليتحوّل الصراع من سياسي إلى شعبي، فخلق الفرقة بين أبناء الأمّة الواحدة. وانقلب الحب الجارِف لشعب مصر إلى نقمة، سوّدت القلوب وأعمت الأبصار. فلم يصل إلى الجيل الجديد عن مصر العروبة أنها كانت بيت كل العرب، وقبلة كل الأحزاب المقاومة والمناضلين ضدّ الاستعمار، ولم يصل إليهم دعمها لكل حركة تحرّر، خرجت في المنطقة في فترة حرجة من تاريخها، وتاريخ المنطقة.
لم يصل إليهم أنها كانت أول من زرع فكرة أن فلسطين هي قضية العرب الأولى، وأنها دخلت حروباً ليست بحروبها – بغضّ النظر عن رأينا فيها- كل ذلك كان فقط لإيمانها بدورها التاريخي في المنطقة الذي ليس لها خيار في التخلّي عنه . والحقيقة أن مصر لا تحتاج إلى دفاع عن دورها وريادتها، فالكل بانتظار مصر، والكل في تعطّش لدور مصر. ربما ظهر ذلك جلياً بعد أحداث يناير 2011، حين قرأت بعض الأنظمة العربية ما حدث في مصر على أنه سقوط لكامب ديفيد!! ولو أن ما حصل في تونس انتقل إلى بلد آخر غير مصر، ربما لما وجد "الربيع العربي" رواجاً في المنطقة. وكذلك كان ل 30 يونيو الأثر ذاته في انحسار دور الإخوان في المنطقة، بعد صعودهم المُفاجىء والكبير بعد يناير. وسواء اختلفت أو اتفقت مع 25 و 30، فإنك لا يمكن أن تنكر أثرهما على المنطقة. وإن كانت شعوب المنطقة قد شعرت، في فترة من الفترات، بفتور ناحية مصر، فإنها مازالت ترى فيها المُلهم، والداعِم، وتتوقّع منها الأكثر دائماً. ربما هذا هو أيضاً أحد الأسباب التي ساعدت في خيبة الأمل من مصر، نتيجةً للآمال العريضة المعلّقة عليها، وكذلك الانحسار المصري نحو الداخل، بدوافع سياسية واقتصادية مختلفة. والخوف كل الخوف من الجيل الذي فقد بوصلته، ويغذّيه عداء لمصر، قد تجاوز حدود الاختلاف السياسي، وساعدت في تكوينه أسباب كثيرة، بعضها مقصود ومخطّط من الخارج، وبعضها مع الأسف من الداخل العربي، ولا يمكن إغفال أن بعض هذه الأسباب مصرية خالصة.
واستمرار هذا التشويه للتاريخ، وشيطنة وتهميش دور مصر، لهو أخطر ما يواجه مستقبل المنطقة العربية بالكامل، حيث إن من يحاولون استجلاب العداء لمصر، يحرّفون حقائق التاريخ لخدمة أهدافهم، فهم يشوّهون كل ما فعلته وتفعله في الشأن العربي، غير مدركين، ربما يطال هذا التشويه التاريخ العربي كله، لأنه لا يمكن، بحال من الأحوال، فصل العروبة عن مصر، ولا فصل مصر عن العروبة، وكل من يتخيّل غير ذلك واهِم عابِث. لأننا في لحظة فارقة كهذه، يفرّقنا كل ما كان يجمعنا، وينهش في تاريخنا وثوابتنا كل جاهل. نعاقب أنفسنا بتشويه كل ما كان جميلاً في تاريخنا، ونعكس انهزامنا الداخلي على لغتنا التي أصبحت الشتائم عنصرها الأساسي.
لكل هذا، فإنه ليس هناك أفضل من هذا الوقت لنقول فيه: احتفظوا بسوادكم وأحقادكم لأنفسكم، حاربوا وعادوا من تشاؤون سياسياً، ولكن لا تزرعوا الكراهية بنشر الأباطيل بين الشعوب. اتركوا أفكاركم، وأيديولجياتكم في الحاضر، ولا تشوّهوا التاريخ، فتدمّروا الأجيال القادمة. وعودوا بعروبتكم إلى حضن مصر قبل أن يصل السوس إلى البراعم.