السعودية وقمّة الرياض.. إلى أين؟
يتحدّث الكثير من الناس، أميّون ومثقّفون عن الطبقة السياسية في السعودية والموقف السلبي لها تجاه ما يجري من تضاد فكرى ودموي في الخارطة العربية بسبب سياستها، إن على مستوى الظاهر أو على مستوى الباطن، بما هو منظور ومحسوس، أو بما هو محسوس فقط.
ولكن في الوقت نفسه يعيش سنوات خلف الحضارة إذا استثنينا بريقها المادي المصدر لا المنتج لديها، وحتى السياسة نفس سنوات التخلف!!
هل هذا قدر حكّامه أم هو قدر التسيير والمسيّرين أم قدر شعوبه، أم هم كلهم نتاج سياسية لا تؤمن حتى بالخطاب السياسي المكتوب خارج ما هو من الغرائز؟ الإشكالية مطروحة والحل ممكن طالما إن الإنسان هو مفتاح الواقع وليس العكس، ثم إن الواقع يتغيّر ومن يحيط به أيضاً، والذي يرافق هذا التغيير بالأساس هو الإنسان. إذن، نحن أمام حركة خلفية سياسياً وأمام ظواهر الجمود وتراكمات سوء التحرّك الذي يلازمها بسبب فيضانات الطائفية ودُعاتها.دعني أقول، إن العصر بكل ثوراته ومعطياته وإشكالاته يدعونا ولا ينتظرنا للتحرّك، وأن القاطرة لا تقبل التوقّف أو حتى الاسترخاء، فما بالك الطائفية، ومن لا يدرك هذا المنطق لن يكون إلا في المؤخّرة، مؤخّرة الأحداث ومؤخّرة التطوّر.. وإن التحرّك بالنسبة للإنسان عند عُمر محدّد مهم، هكذا تقول قوانين البيولوجيات وعلم الطب، ولا مجال للتشبث باللانهائي في المكان، أي في المسؤولية، إن الأفكار تبعاً لذلك تسترخي قوتها، وعند عُمر محدّد، يحتاج معها الإنسان إلى التأمّل بدل طلب المزيد من المسؤولية، والذين يحكمون جزءاً مهماً من العالم العربي لا يؤمنون بهذا المنطق، فهم بالتالي يفتحون بأيديهم باب التأخّر في التسيير وفي الإنتاج وفي التبعية.. تم إن ذلك يخلق جماعة جديدة يحوّلها الإحباط إلى جماعة غير قابلة لاستخدام طاقتها في الفعل المُنتج، القادر على تجاوز الحاضر صوب المستقبل.
هذه إذن هي إحدى المشكلات التي تنخر سياسة السعودية ودول الخليج، والحل هو إعادة ترميم المنطق الذي يتحكّم في المسؤولية السياسية وتجديده وفق منظور العصر والمفاهيم التي تحكمه لا وفق أنا "صاحب السمّو وأنتم العبيد" أنا صاحب الجلالة وأنتم الخدم.
هذا التغيير لا يحصل من تكرار الوعظ السياسي أو الإحصائيات الجامدة ولا بالمنتج السيّئ للحكم الوراثي، بل بمنتج الجامعات ومراكز البحث.
وهنا أيضاً لا يمكن إغفال ظاهرة التفاوت الاجتماعي التي استوطنت العقول التي تتحكّم في مراكز صناعة القرار السياسي وتدير الموارد البشرية والاقتصادية فيه، وتديرها –مع الأسف- وفق إدارة معجون صناعة الطماطم، إن الإدارة استثمار وإن القائم عليها لا بدّ من أن يكون خبيراً وليس عشائرياً أو عائلياً، كحال سلمان بن عبد العزيز مع أبنائه.
دعني أقول أيضاً، وليس بجديد عليك -إن كنت من أهل السياسة- فإن الاختلاف في الرأي هو طبيعة بشرية، وما هو غير ممكن فيها هو محاولات الاستحواذ على الرأي الآخر، وإرهاقه بالأسئلة المبنية على فوضى الفكر وتناقضات الطرح الإيديولوجي.
إن تجاوز منعرجات الاختلاف في الرأي أمر ممكن إذا تخلّصنا جميعاً من عقدة الماضي الأيديولوجي أو الطائفي، وما يلاحق هذا الحطام التاريخي الذي نحن فيه إن على مستوى الذاكرة أو على مستوى الوجدان.
يتحدّث الكثير من الناس، أميّون ومثقّفون عن الطبقة السياسية في السعودية والموقف السلبي لها تجاه ما يجري من تضاد فكرى ودموي في الخارطة العربية بسبب سياستها، إن على مستوى الظاهر أو على مستوى الباطن، بما هو منظور ومحسوس، أو بما هو محسوس فقط.يتحدّثون إذن، وبكل أسف عن مرارة الواقع السياسي والتآكل المستمر لهذا الواقع، لقد جفّت سنوات المدّ الحضاري للأمّة العربية بمقابل إيران، وللبناء التاريخي للمواقف بصداها الإيجابي، كل الماضي اليوم يتوارى خلف الإبصار ولا أحد يستجدي المستقبل قصد وقف هذا التواري ولو حتى بالاستقالة من الميدان السياسي الفاشل الذي هو فيه!!
لكن مادام الكل مشغولاً بهمومه الذاتية وبمكاسبه الذاتية أيضاً، فلا شيء أرحم له من إلصاق التهم بالآخرين، وهذا ما شهدته قمّة السوء الأخيرة في الرياض بقيادة "دونالد ترامب "، لكن ومهما كانت النتائج فليس هناك ما يبرّر الارتداد الحاصل اليوم والتواري المستمر فيه و بهذا الكم من التراخي في صلب مقومات الأمّة، فلا شيء مفروض على العقل ولاشيء مختف من على ظهر الواقع، فالأقلية القابضة على الكل بالحكم "السلالي" ليست هي بالكل رغم ما يعتريها من عنفوان مغشوش وهو عنفوان أصلاً ملك لهذه الأقلية لوحدها، الأقلية هذه وكأنها منظور قدري، على مفاسدها، الأقلية التي رفعتها الظروف المتآكلة على أكتاف الأغلبية رغم قلّة وعيها الإنساني والحضاري والتاريخي ليست قدراً محتوماً او ضوءاً ساطعاً في ليل دامس بل أنها قدر محتوم على نفسها كرؤية فاسدة، ولقد كشفت أزمة "الربيع الدموي" المشؤوم الكافي من هذه الحتمية الموغلة في العمق الفكري لهذه الأقلية، من هنا يمكننا الجزم بأن ما قيل وما يقال عن الأزمة بأنها حاصل التطرّف الإسلامي وليس صانعي هذا التطرّف هو كلام تجريدي إن لم يمكن ممارسة للجنون بوهم، بل حاصل"داعش والنصرة" فكرياً وإيديولوجياً هما صناعة الوهّابية وتمويلاً هي ثلاث دول خليجية (السعودية.. قطر..الإمارات) يضاف إليها تركيا والأردن.
لكن يبدو أن تداعيات الأزمة بكل ثقلها تجاوزت هذا الطرح وكشفت بوضوح خيوط اللعبة وأطرافها، وهي لعبة كارثية على الكل وحتى أكون واضحاً فإن هذه الأطراف أعلنت بوضوح موقفها العدائي للإسلام بسم الإسلام، بناء على مذهب منبوذ "المذهب الوهّابي" من أساسه أولاً والعداء للديمقراطية ثانياً وللسلم ثالثاً، ولعل الملفت للانتباه هو هذا الحاصل التوافقي في المصالح بين دُعاة الارتداد الحضاري ودُعاة الشعوبية الجدد، بتحميل إيران ما هو غير حاصل أصلاً.إن التخطيط للأزمة جاء متوافقاً مع أحداث داخلية لأنظمة عربية شاخت أو هي في طريق الاندثار بتوافق المبدأ القائل بأن للأزمة أسباب داخلية وأسباب خارجية .. ومع ذلك تبقى هذه الأسباب هامشية إذا قورنت بالمصالح التي أفرزت الطبقة السياسية الحالية فهناك ميل باتجاه التطرّف الطائفي لا حسب السياسة ولكن حسب التكتل الخالي من أي صدى سوى صدى الريع السياسي وسلطة الأمر الواقع.. إن السياسية التي نطقت بها قمّة الرياض الأخيرة لا تمثّل حالياً إلا نفسها فالأغلبية، ممن حضروها من الحكّام خرجوا منها على وقع التمايز الحاصل بين ما هو تحت الأضواء وما هو خارج هذه الأضواء، بدليل إن البيان الختامي لم يطّلع عليه أحد إلا من خلال الإعلام ..إن الرّيع السياسي الذي وقعت فيه القمة تحت ضربات الإغراء - المميت – بالمناصب والمال والرشاوى جعلها تستقطب وجدان الخيال بدلاً من وجدان الناس.. جعلها تبنى الإرجاء لها بدلاً من بناء رجاء الأمّة. جعلها تحتكم لسلطة الواقع المأزوم بمنعرجاته التاريخية بدلاً من الاحتكام لسلطة الشعوب العربية والإسلامية بآمالها وأخلاقها .. وصار مع هذا الاستبدال المبتذل التحصن بالخطأ السياسي من هاجس الانقلاب الداخلي على الزعامات المرتبطة بثقافة الرأي الأحادي، وبمفهوم الوصيّ على الرأي الآخر هو المترجم اليوم بقوة في التفكير والتنظير لكثير من دول مجلس التعاون الخليجي، هذا التوجّه الذي يشبه في الواقع أنغام اللحن الجنائزي أقصى المعارضين لسياسة الرّق التي تمارسها السعودية من ممارسة حقّهم في التعبير عن رؤيتهم ومواقفهم، ولذلك تبدو هذه المعارضة الآن نائمة وبصمت مرير ظاهرياً لكنها تمثل مهما كان الصمت فشلاً ذريعاً للخيار السياسي القائم اليوم، إذ أن إلغاء الأغلبية والتي من حقها التعبير والانضمام إلى أي حزب سياسي أو تكتل ما يمكن إدراجه ببساطة ضمن حساسية الخوف من مآسي الماضي التي تثقل الأقلية المتحكمة في صناعة القرار، لكن هذا الخوف يبقى حاضراً بقوة حتى في غياب الأغلبية لأن التاريخ شامل ولا يمكن سريان التجزيئية عليه -أية تجزيئة - ولذلك جاءت الحكمة القاتلة "الرجوع إلى الأصل فضيلة" ضامنة لخط التواصل التاريخي بين مفهوم الحكمة والأصل البشري.
إن السياسة في أبجدياتها هي فن الممكن، والسياسي بدوره هو واحد في هذا الممكن ، بمعنى آخر هو لا يصنع المعجزة ولا يخرق واقعة بتجاوز هذا الممكن أو بعدم الأخذ به ، إذ إن التجاوز لهذا الإمكان يؤدّي حتماً إلى السقوط في الظاهرة الفرعونية ، وما كان في قمة الرياض أو تم فيها على خلفياته السياسية تجاه إيران والمقاومة، يمثل بأمانة هذا الإشكالية فالذين صاغوا بيانها خفية مثّلوا ظاهرة غريبة في السياسة، وبالتالي فهي لا تشكل شيئاً في ما يمسى بصناعة القرار السياسي ولا تأخذ أي توجه مما أشارت إليه في بيانها، فالأغلبية ترفض إلباس المقاومة لبوس "داعش والنصرة"، وتقوله ذلك جهاراً لبعض مُعاتبيها.
وبالتالي فهي ليست دولاً تابعة لنظرية فوقية تريدها الرياض منها لكل المسلمين والعرب، بل يمكن القول إن التفاهم المتبادل بين "ترامب" وسلمان بن عبد العزيز هو مجرّد تفاهم ظرفي وقد أخذ ترامب ما أراد ولن يعود إلى الوراء ليفرّط في ما أخد بل إنه سيظل يريد المزيد إن لم تعصف به رياح العزل الذي يلاحقه.
إن الطحين التغريبي في المنطقة صنع الكثير من الوجوه السياسية والإعلامية والثقافية الفاشلة، وعمدت هذه الوجوه بإيعاز من البلاط تمرير خياراته بالتعاون مع أطراف خارجية لتحوّل بعض البلاد العربية إلى ما يشبه الرماد، بواسطة الحروب الطائفية لسبب بسيط أنها بلدان تخالفها الرؤية والموقف ولا تود أن تكون ضمن تبعيّتها، لكن السعودية ومع الأخطاء التي وقعت فيها وهي تتعامل مع الأزمة لم تعد تملك حتى أوراق الغش التي استعملتها لعقود من الزمن للتستّر على ماضيها السيّئ.
إن مرارة الواقع ليست دائماً من مرارة التاريخ ولكن تبقى حاصلاً لواقع فرضته أطراف هي في الواقع من ضمن ثقافة الآخر، ونعني بذلك ثقافة الاستعمار.
إن التغيير الحاصل باتجاه التغريب في مواقع عربية عدّة قد يؤدّي بدوره إلى توسيع الأزمة إن لم نقل سوف يصنع أزمة أخرى تأتي ببدائل أخرى من الفوضى ومن التواري إلى حيث عمق التاريخ الجاهلي. إن استقطاب عناصر التزوير بدل استقطاب عناصر الحل الشامل للأزمة في ثلاث دول (اليمن، سوريا، ليبيا) يبدو من أساسيات الفكر الاستئصالي الطائفي، ومادام هذا المنطق هو الذي يحرّك السياسية لدى جماعة التوجّه الحداثي بالمفهوم الطائفي فإن الاستقرار السياسي ذاته يبدو ضربا من الخيال .
إن عمليات الهدم للدول تحت ادّعاء واهن أن صانعيها أقاموها على أسُس ديكتاتورية وتخدم طائفة على حساب طوائف أخرى، هي عمليات قائمة على الممارسة السياسية المطبوعة بطابع التخمين، وربما هو هذا حد استمرار الأزمة على المستوى الفوقي منذ تأسيس المملكات العربية.