القدس تربح "معركة" في سياق الحرب الطويلة
هي القدس: فقه مُتكامل من السماء فالأرض فالتاريخ وبالعكس، فقه يحتاج لبصيرة متوقّدة لقراءته، القدس التي توفّر للجميع العودة والتوبة عن أخطائهم، وتوفّر للإسرائيليين حصراً وعيناً، أخر الفُرَص المُضيَّعة للتخلّص من ثقافة الاحتلال وأذاها في حياة الفلسطينيين، ومن مُترتّباتها ومن فسادها ومن مخاطرها في الحياة الراهنة والقادمة للإسرائيليين أنفسهم، كشرط للبحث العقلاني عن أقدراهم في إقليم وعالم يتحوّلان ويتغيّران.
قالت لإسرائيل: إن سياستها في القدس التي تحتلّها منذ خمسين عاما هي سياسة غبيّة وعقيمة في المحصّلة النهائية لها، رغم ما بنته من وقائع ومُعطيات من وجهة نظرها، غير أن إسرائيل لا تحتاج من الناحية العقلانية السياسية للعمل بضوء رواسب الأيدولوجيا وأوهامها لا في القدس وفي غيرها، بل تحتاج لقراءة الواقع واحتمالاته الصعبة: الظاهر منها والكامن والتصرّف بضوء ذلك.
وقالت لإسرائيل: إن ثقافة اغتنام الأحداث وتوظيفها بما يحقّق نواياها – وهي صاحبة باع طويل وخبرة مرموقة في ذلك- قد أصبحت تصرفاً أحمقاً لا أفق له، لأنه يُرضي غرائز الوعي الإسرائيلي ولا يتّفق مع المصلحة العقلانية لإسرائيل، ووفقاً لقراءة خصم موضوعي شريف. وعندما يكون الخيار بين غرائز الوعي وبين متطلّبات الوعي الإيجابي والمُناسِب في تداول الواقع، فإن مَن يختار الغرائز لا يحتاج لجمع الأدلّة على أنه أحمق.
وقالت لإسرائيل: إن الوقوف عند تجريم الفلسطيني لفعله المقاوِم، من دون أن يرفّ لها جفن، وتسأل نفسها عن دورها في إنتاج المقاومة عند الفلسطينيين، هو فعل يتخطّى الغباء والعُزلة عن الواقع بكثر، لأن الاحتلال وممارساته وثقافته هي التي أنتجت شهيداً وشريداً وأسيراً وجريحاً ومقاوماً ومُعذّباً ومكلوماً ومُهاناً ومسحوقاً وحالِماً بالمقاومة في يوم سيأتي.
وقالت لإسرائيل: لقد أدّت القدس قسطها نحو علا إسرائيل السياسي في المراحل الأولى لفكرة الحركة الصهيونية ثم في مرحلة إنشاء دولة إسرائيل، واليوم ليس بمقدورها فعل ذلك، واستمرار استخدام القدس على خلفيّة تعبوية إيديولوجية بصفتها "أورشليم"،"التي تنساني يميني اذا نسيتها"يحوّلها من قوة إلى عبء ومأزق في راهن دولة إسرائيل ومستقبلها. فيما طريقة تصرّف إسرائيل في القدس تحوّلها لموضوع يجلب ويُفاقم من منظومة التهديدات العميقة التي تعيش في كنفها. وبمقدور قراءة عاقلة بسيطة أن تتوصّل إلى أن مُجمل السياسات الإسرائيلية في السنوات الأربعين التي خلت أن تقول خلاصة بسيطة: لم تترتّب عن هذه السياسة أية فوائد سياسية أو أمنية أو استراتيجيه بل على العكس من ذلك، لقد كانت العوائد متوافقة فقط مع جوانب مرضية في الأيدولوجيا التي تحكم التيار القومي الديني المُتشدّد الذي يتّجه بإسرائيل من يوم لأخر نحو تعميق مأزقها وتعقيده، وبحسابات العقل والسياسة فإن هذه العوائد تُفاقِم في ضائقة إسرائيل، وبمقدور هذه القراءة أن تتوصّل لتوصية قد تبدو مُدهشة وهي: من مصلحة إسرائيل عدم تذكير المعنيين بالقدس أنها تحتلها ما استطاعت لذلك سبيلاً.
وقالت لإسرائيل: إنه ورغم تجربتها الغنية في الاستخدام الذكي للإمكانيات والفُرَص والظروف والأحوال التي كانت لها في كثير من الجوانب، إلا أنها تسقط عملياً على نحو أو آخر في القدس وفي رؤيتها للحقوق الفلسطينية. وعليها أن تحسب أفعالها من خلال معادلة باتت حاكِمة لحياتها وهي: إن التعاطي مع الفلسطينيين كضحايا مُستدامين لاستمرار دولة إسرائيل أخذ يتحوّل لمصدر يُنتِج الأذى الاستراتيجي لإسرائيل: صورة ووقائعاً ومشروعاً ومستقبلاً.
وقالت لإسرائيل: لقد عاشت القدس لستين عاماً حتى الآن تحت احتلالها، وبمقدورها تحمّل ذلك لألفي عام قادمة، لكن إلى أيّ مدى تستطيع إسرائيل العيش من دون سلام!.
وعلى المقلب الأخر قالت معركة القدس الأخيرة الكثير أيضاً للفلسطينيين، بيّنت لهم أنه بالمقدور جهد مدني معني ومتواصل، تشارك فيه المرأة والطفل والشاب والشيخ والعالِم والهامشي وكل من هو معني بالأمر حيثما كان. يرعاه ويواكبه ويدركه حس سياسي مسئول، أن يحقّق أشياء مهمّة ضدّ خصمٍ قاسٍ في ظروف سيّئة للغاية.
وقالت للفلسطينيين: لا يترتّب عن وجود حق للناس بأن هذا الحق يصبح ناجزاً بل هو يحتاج لمتطلّبات الاستحقاق، وإن وجود طريقة ملائِمة لتجسيد الحق هو ضرورة وحاجة وثقافة وفن، عليهم أن يطوّروا رؤيتهم لهذا الأمر ووعيهم له.
وقالت للفلسطينيين: لا القدس، ولا الحقوق الفلسطينية تحتاج إلى خطابات تعبوية تُفضي إلى الخيبة والفشل والاستنفاذ، وتفرّغ التعبئة من مصداقيتها ووظائفها وطاقتها، كما لا داعٍ لاستخدام الألوان في الخطابات الفلسطينية وخطوطها، لأن الفلسطينيين يحتاجون إلى فعل مُتكاتِف ومتواصل، يستخدم كل الأشكال المناسبة والممكنة، فعل يجعل من الدُعاء والصلاة والرباط تحت الشمس مقاومة لا يمكن تجاهلها، مقاومة تقول وتملي. إن خطوات صغيرة ومتواصلة ومدركة ومزوّدة بإرادة مناسبة وبصيرة سياسية كافية هي التي ترسم خطوطها الخاصة فوق كل الخطوط.
وقالت للفلسطينيين، إن مَن هو مِن القدس وفلسطين لديه الكثير من عناصر القوة والقدرة والإمكانيات والبركات، وبالتالي عليهم أن يعرفوا ذلك ويدركوه ويدمجوه في معارك وجودهم المختلفة على نحو بنّاء ومُتخيّل وخلاّق. وأن عليهم أن يتعلّموا الاقتصاد في ممارسة فعل النداء والاستغاثة، لأن المعنيين بفلسطين وحقوق شعبها، والذين يعتبرون ذلك من صميم الرؤية والاسترتيجية والسياسة في الإقليم والعالم هم معروفو العنوان ومكان الإقامة والدور.
بيد أن أهم ما تقوله لهم: في اليوم التالي لمشهد القدس الراهن، لا تحتاجون على الإطلاق لطريقتكم القديمة في التفكير والزهوّ، الذي لا يتحوّل لقوة دافِعة ايجابية بمقدار ما يتحوّل لذكرى سيّئة وقوة مُضيّعة، كما لا تحتاجون إلى ادّعاءات الأبوّة لما جرى. أنتم بحاجة فقط للمضي قدماً في تطوير الوعي وأشكال العمل المُتراكم والمُتواصل من اجل تجسيد حقوقكم وعواطفكم.
أما العالم، بمعنى كل مَن كان مُساهماً في ظلم فلسطين أو مُستقيلاً من أيّ فعل إيجابي تجاهها، أو غير مُكترث أو غافل عما يجري فيها، فقد قالت له القدس ببساطة: من هذا المكان، حيث تتقاطع السماء مع الأرض والشاهد مع الغيب، هذا الحيّز المُدهش بأسراره، تبدأ الحروب التي لا تنتهي، طالما لم يستوِ السلام والعدل والحق في مداراتها المناسبة.
هي القدس: فقه مُتكامل من السماء فالأرض فالتاريخ وبالعكس، فقه يحتاج لبصيرة متوقّدة لقراءته، القدس التي توفّر للجميع العودة والتوبة عن أخطائهم، وتوفّر للإسرائيليين حصراً وعيناً، أخر الفُرَص المُضيَّعة للتخلّص من ثقافة الاحتلال وأذاها في حياة الفلسطينيين، ومن مُترتّباتها ومن فسادها ومن مخاطرها في الحياة الراهنة والقادمة للإسرائيليين أنفسهم، كشرط للبحث العقلاني عن أقدراهم في إقليم وعالم يتحوّلان ويتغيّران.