مؤتمر حركة "فتح" السابع وإرهاصات عشرين عاماً من التحوّلات السياسية
يحظى مؤتمر حركة "فتح" السابع باهتمام خاص وغير مسبوق من قِبَل النُخبة والمُراقبين السياسيين والشارع الفلسطيني على حدٍ سواء. فهنالك إدراك عام بأن ظروف ومسار هذا المؤتمر مختلفة حيث يُعقد بعد جملة من التحوّلات الداخلية عاشتها الحركة بالتوازي مع تحوّلات داخل السلطة الفلسطينية على مدى العشرين عاماً الماضية، واليوم بات لا مفرّ من مواجهة آثار تلك التحوّلات.
عندما تم اختيار عباس خليفة للراحل ياسر عرفات، لم تكن حال الاستقطاب هذه قد تشكّلت بعد. فوجود عرفات برمزيّته الوطنية والكاريزما التي تمتّع بها لم تسمح أصلاً بوجود مَن يُفكّر بأن يطرح نفسه قطباً أو تيّاراً داخلياً، وموته خلّف هالة عاطفية بين قواعد الحركة كان لها بالغ الأهمية في رصّ الصفوف الداخلية. إضافة إلى أن الشارع الفلسطيني كان خارجاً من انتفاضة مُرهِقة جداً ومُكلِفة بشرياً ومادياً، وقد سادتها فوضى عارمة. ما سهّل لمحمود عباس الذي رفع شعار "إنهاء فوضى السلاح" آنذاك أن يجمع حوله تأييد جزء كبير من الفلسطينيين في الضفّة والقطاع. إلى جانب ذلك كان النظام السياسي في تلك المرحلة مازال حياً، ومؤسساته تعمل وفق القانون الأساسي، حيث استلم رئيس المجلس التشريعي روحي فتوح الرئاسة الانتقالية لمدة 60 يوماً وفق القانون، حتى إجراء الانتخابات الرئاسية عام 2005. وجاءت مشاركة "حماس" في الانتخابات التشريعية عام 2006 لتُشكّل عاملاً خارجياً ساهم في التوحّد بدل الفرقة والاستقطاب.
لهذه الأسباب مُجتمعة تجاوزت "فتح" غياب زعيمها التاريخي عرفات بقوة وسلاسة، وجاء عباس خليفة ورئيساً للحركة والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بسهولة تامة. مع عدم إهمال الإشارة إلى أن الانتخابات التشريعية شهدت بعض حالات الخروج عن الإجماع الفتحاوي عبر الترشّح المُنفصِل عن قوائم الحركة الرسمية. وهذا كان واحداً من الأسباب التي ساهمت بخسارة فتح الفادحة أمام فوز " حماس" غير المُتوقّع.
اليوم ونحن على أبواب المؤتمر السابع فإن كل تلك العوامل قد غابت وحلّت مكانها عوامل وظروف جديدة ومُختلفة تماماً، أدخلت حركة "فتح" إلى عنق الزجاجة. ويمكن وصف وتحليل وتتبّع هذه الظروف وآثارها على الحركة والشارع الفلسطيني بتقسيم العشرين عاماً الماضية إلى ثلاثة مراحل سياسية:
المرحلة الأولى: السلطة مشروع وطني
وقد بقيت هذه الرؤية الفلسطينية للسلطة سائدة حتى وقع الاصطدام الكبير في مفاوضات "كامب ديفيد" عام 2000. اصطدام كان لا مفرّ منه في نهاية المطاف، حيث لكل طرف من أطراف مشروع السلام أهدافه المُختلفة والمُناقِضة لأهداف الطرف الآخر. وصل عرفات في هذه المفاوضات إلى الحد الأقصى من تقديم التنازلات فأعلن خطوطه الحمراء وذهب ليناور بانتفاضة جديدة. والراعي الدولي قرّر أنه لم يعد ممكناً التعامل مع هذا الرجل فوصفه بالديكتاتور وبأنه لم يعد "شريكاً في عملية السلام". ومثلما اختلفت الأهداف من الحل السياسي، فقد كان لكل طرف أهدافه الخاصة أيضاً من الانتفاضة الثانية. عرفات أرادها أداة ضغط لتحقيق مكاسب سياسية، بينما "إسرائيل" أرادتها فرصة للتخلّص منه ومن مرحلته. وقد نجحت في ذلك فكانت الانتفاضة التي طوت صفحة هذا الزعيم.
إذا جاءت هذه الانتفاضة كدليل على وجود رؤية وطنية للسلطة الفلسطينية تحملها "فتح" بزعامة عرفات، وعندما وصلت إلى طريق مسدود تحوّلت إلى انتفاضة. ومثلما أخطأ عرفات بحساباته وطريقة إدارته للانتفاضة، فقد سبق أن أخطأ برؤيته هذه من أساسها عندما قَبِل ب " أوسلو". ونحن هنا لسنا بصدد تبيان ثغرات هذا الاتفاق ومشاكله خاصة وأنه أشبع بحثاً، ولكن ما يهمنا الإشارة إليه أنه قد غاب عن فطنة هذا القائد صعوبة التوفيق بين تأسيس حياة سياسية مدنية والاحتفاظ بنهج الثورة في آن واحد. وإذا استطاع فإن المجتمع الدولي الراعي لن يقبل بذلك. دعم الثورة ومعطياته يختلف تماماً عن تمويل "مشروع سياسي وليد اتفاقيات دولية. وهذا الذي رفضت أن تتعلّمه "حماس" من التجربة العرفاتية عندما قرّرت السير على نفس الخيط الرفيع، أي الدخول إلى "أوسلو" بشروطه وسقفه المحدود وفي نفس الوقت الاحتفاظ بـ "المقاومة"، فوجدت نفسها هي الأخرى في مربّع ضيّق لا تُحسد عليه. ومن ناحية إجرائية فقد أدار عرفات هذه السلطة وفق نظام "زبائني" علاقاته محكومة بالمصالح الضيّقة، فبدأ مفهوم الحزب السياسي يشهد تحوّلات سلبية حتى بات سُلّماً للوصول إلى تلك المصالح. والسلطة نفسها بعد أن تجاوزت عمرها الافتراضي بدأت تتحوّل من مرحلة انتقالية نحو هدف وطني إلى مجموعة من المصالح والامتيازات المُرتبطة بوظائف وألقاب. وبالتوازي مع كل ذلك دخل التمويل الدولي بأجندته الخاصة إلى الضفّة والقطاع فبدأت التركيبة الاقتصادية والمفاهيم الاجتماعية تتغيّر، وأولويات جديدة تتشكّل لدى الناس. وكل هذه المُعطيات التي زرعت بذورها في سنوات حكم عرفات، حصدناها شوكاً بعد رحيله بسنوات قليلة.
المرحلة الثانية: الانقسام السياسي
وهكذا تبيّن أن "أوسلو" وعلى عكس ما اعتقدت القيادة الحمساوية مازال حياً، وبدل أن تتراجع هذه القيادة وتسلك طريقاً بديلاً استمرت في العناد حتى وقع في غزّة الاقتتال الذي انتهى بالانقسام. وبدل وقوف الطرفين بروح المسؤولية الوطنية أمام هذا الواقع الجديد والخطير، تأقلم كلاهما سريعاً مع الانقسام. ويبدو أن المجتمع الدولي قد التقط هذه الفرصة وعمل على "مأسسة" هذا الانقسام وترسيخه. حيث سارع إلى عقد مؤتمر "أنابوليس- للسلام في الشرق الأوسط"، في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2007، وتبعه مؤتمر المانحين في باريس في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه.
تقدّم سلام فياض وقد أصبح رئيساً للوزراء بصفته رجلاً مهنياً "تكنوقراط" إلى المانحين بخطته – الإصلاح والتنمية- التي نالت شهرة واسعة على المستوى الدولي. خطة تهدف إلى بناء "مؤسسات الدولة" وبناء "اقتصاد قابل للحياة". طالب فياض الدول المانحة ب 5.6 مليار دولار لتنفيذها، وكانت المُفاجاة أن رصد له المؤتمرون بسخاء لم يسبق له مثيل أكثر من 7 مليارات دولار. كل ذلك كان يتم في ظلّ حال الانقسام ومن دون أن نسأل أنفسنا وبعيداً عن الشعارات المرفوعة: ما معنى هذه الحماسة المحلية لخطط تنمية وبناء، وما معنى هذا السخاء الدولي؟ وهل يمكن فعلاً تحقيق ما يرفعونه من شعار أم هو مأسسة للانقسام.
على الصعيد الداخلي لفتح، فقد جاء هذا الانقسام بعد حوالى ثلاث سنوات على غياب ياسر عرفات، ما سهّل اتّساع رقعة الخلافات وتبادل الاتّهامات حول المسؤولية عما حصل، فولدت القطبية والتوجّهات المختلفة داخل الحركة وتعزّزت في المرحلة الثالثة ، وفيها وصل نهج محمود عباس السياسي إلى طريق مسدود فضعفت شعبيته كثيراً وتعزّز دور "التكنوقراط" فأخذ الاقتصاد ورجاله حصتهم على حساب "فتح" نفسها ومشروعها الوطني.
التكنوقراط وانفكاك الوطني عن السياسي
وبالتوازي مع هذا التحوّل كان هنالك ورشة عمل ضخمة تتم بكل هدوء هدفها إعادة بناء الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية أيضاً بنفس منطق انفصال السياسي عن الوطني، وذلك تحت شعار "السلاح الشرعي". إذ لم يعد مقبولاً أن يكون عنصر الأمن في السلطة الفلسطينية عضواً في "كتائب شهداء الأقصى". بمعنى آخر، ما بعد الانقسام تم بناء وترسيخ فلسفة اقتصادية وعقيدة أمنية بعيداً عن الجوهر الوطني الذي أنشئت من أجله السلطة. وهنا نلاحظ كيف أن المفاوضات مع الإسرائيليين لم تعد مسألة مُلحّة لدى المستوى السياسي للسلطة أو الشارع الفلسطيني. ولذلك فإن توقّفها منذ سنوات لا يُشكّل حدثاً مهماً طالما أن هذا التوقّف لا يمسّ المُبادلات التجارية وتراكم رأس المال للنُخبة الوليدة من جهة، ولا يؤثّر باستمرار وفعالية ما يُسمّى "التنسيق الأمني".
هذا الانفكاك ما بين الوطني والسياسي وتحوّل السلطة إلى مشروع اقتصادي-أمني، قد يكون العامل الأكثر مساً بحركة فتح والأكثر مساهمة في صوغ أزمتها الحالية، إذ دخلت هذه الحركة من دون أن تدرك ربما و من دون أن تتهيّأ في عملية تحوّل من فصيل لديه برنامج نضالي وأدبيات ثورية إلى حزب سياسي. هذا إلى جانب غياب الكاريزما العرفاتية الذي أتضّح أثره بعد سنوات، ثم تراجع دور محمود عباس وضعف تأثيره في الحال الفلسطينية الكليّة، خاصة بعد خسارته لقطاع غزّة. كلها عوامل فرضت ثقافة سياسية جديدة داخل "فتح" وخلقت طموحات شخصية لقادتها وفرضت مصالح ضيّقة بعيدة عن الدور الوطني لها وللسلطة، فظهرت شبكة من العلاقات والمصالح المُتناقِضة والأقطاب المُتضارِبة. وإذا ما دقّقنا النظر سنجد أن المؤتمر السادس لم يطرح أية رؤية سياسية للوضع المأزوم فلسطينياً ولم يضع استراتيجيات وطنية سوى مسألة اللجوء إلى الأمم المتحدة ومحاولة الانضمام إلى مؤسساتها. والمؤتمر الذي سيُعقد بعد أيام قليلة يتم التحضير له وسط خلافات لا علاقة لها بالبرامج والرؤى الوطنية. وغالباً لن يطرح هذا أية استراتيجية وطنية عدا شعار "المقاومة الشعبية الذكية" الذي هدفه حفظ ماء الوجه.
فليس هنالك رغبة بطرح بدائل حقيقية وقاسية، لأنه ليس هنالك رغبة بالتخلّي عن الامتيازات التي يوفّرها الوضع القائم، لذلك فإن الخلافات التي تسبق انعقاد هذا المؤتمر ما هي إلا صراع على تلك الامتيازات. من هنا فإن أهميته بالنسبة للقائمين عليه تكمُن في كونه ضرورة لضمان وتثبيت مصالحهم وقطع الطريق على أقطاب أخرى. وإذا نجحوا بتحقيق ذلك في هذه المرحلة فإن المنطق يقول بأن ذلك لن يدوم على المدى البعيد، لأن الحال السياسية سواء للسلطة أو فتح في حراك وجدل مستمرّين، وبالتالي ستستمر شبكة التحالفات والمصالح وتُشكّل الأقطاب وموازين القوى بالتغيّر صعوداً وهبوطاً وبين مد وجزر. ويبقى الوجود الشخصي لمحمود عباس الضابط لإيقاع هذه التحوّلات والمُحدّد لموازين القوى فيها، وهو ما يجعل مستقبل "فتح " مرهوناً بغياب هذا الرجل عن المشهد السياسي كلياً، إذا لم تكن هنالك مراجعة فتحاوية جديّة لكل ما سبق من تحوّلات.