مقترح "الأستانة".. نقاطٌ أخيرة لمعانٍ متغيّرة!
مقاصد مؤتمر الأستانة أبعد من الجغرافيا السورية، ولكن انطلاقاً منها وتأسيساً على أزمتها، فالهدف الروسي الإيراني الأساس من هذا المؤتمر هو جرّ الكتلة التركية إلى الفضاء الأوراسي، بما يحقّق هدفين استراتيجيين لروسيا وإيران في آن، الهدف الأول هو إبعاد تركيا عن التكتّل الأطلسي والهدف الثاني هو وضع حدٍ للمأساة السورية.
-
- 30 كانون الأول 2016 13:56
لا يبدو أنّ مقترح عقد محادثات "سلام"
سوريا في عاصمة كازخستان الأستانة يشبه سابقيه، شيءٌ ما تغيّر أو في طريقه إلى
التغيّر، وهنا حكماً الكلام ليس في المعطيات الميدانية السورية أو حتى السياسية،
فتفاصيلها وموازينها التي كانت موضع افتراقٍ واختلافٍ بين منظميّ هذه المحادثات باتت
اليوم موضع خلافٍ (موضعيّ) في خريطةٍ أكبر من الجغرافيا السورية ورؤيةٍ أوسع
جيوبولتيكياً، وليس من المستبعد أن تكون ذات التفاصيل موضع إرضاءٍ وجذبٍ لهذا
الطرف أو ذاك ففي السياسة والتفاوض كلّه ممكن، فنار الحرب التي كادت أن تشعل الإقليم
برمّته باتت اليوم تبعث الدفء في علاقات المنظّمين لهذا المؤتمر، أمرٌ لا يشكّل
حساسيةً مفرطة طالما أنّ الهدف المعلن هو إطفاء نار هذه الحرب أو تطويقها في نهاية
الاجتماع وفق مخرجات إعلان موسكو (20/12/2016)، فهذا الإعلان هو لحظةٌ فارقةٌ في علاقات الترويكا
(الروسية الإيرانية التركية)،لأنّه سيفتح فضاءاتٍ سياسيةٍ للتفاوض بين أطرافه
تتجاوز الحيّز الضيّق للجغرافيا السورية، رغم أهمية هذا الحيّز الخاصة لكلّ طرفٍ
منفرداً، هذه الفضاءات لم تكن متاحةً لولا الضعف الذي طرأ على الإمبراطورية
الأميركية سياسياً ومالياً، وعودة روسيا إلى الساحة الدولية بقوةٍ ورغبة في
استعادة أمجاد الماضي كقطبٍ سياسيّ وعسكريّ، إضافةً إلى فائض القوة المتنامي لدى الأطراف
الإقليمية كإيران وتركيا، هذه الوضعية الدولية والإقليمية المتحوّلة جعلت من الأزمة
السورية عائقاً أمام مجالاتٍ أوسع حيوياً واقتصادياً وسياسياً أمام منظّمي هذا
المؤتمر، سرّعت بتبلورها ثلاثة عوامل:
العامل الأول هو انسداد الأفق التركي
للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سيما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، مما قاد
الحكومة التركية إلى وضع خيار فضاء شنغهاي الاقتصادي كبديلٍ محتمل.
العامل الثاني
هو إقرار الحكومة الأميركية موازنة العام (2017) التي تتضمّن تزويد المعارضة
المسلحة السورية بمنظومات دفاعٍ جويّ محمولة، الأمر الذي يعني أنّ الاستراتيجية الأميركية
تسير نحو محاولة "أفغنَة" الوجود الروسي في سوريا بل وتقويضه.
أمّا العامل
الثالث فهو نيّة الرئيس ترامب وضع الخليج العربي "الإسلامي/ السنّي" في
مواجهة إيران كرأس حربةٍ لنسف اتفاق فيينا النووي وعلى الأجندة الأميركية بناء
تحالف خليجي – "إسرائيلي" لذات الغرض.هذه العوامل الثلاثة تقود إلى
مسارٍ واحدٍ وفضاءٍ سياسيّ واحد هو أواسط القارة الآسيوية حيث أنّ التفاهم بين روسيا
وتركيا يلبّي مصالح الطرفين نظرياً، فالرؤية الأوراسية الروسية تشمل الجمهوريات الإسلامية
المستقلّة عن الاتحاد السوفياتي السابق وهي ذاتها موطن الشعوب الـ"أورو-آسيوية"
الناطقة بإحدى اللغات المشتقّة من اللغة التركية حيث تقيم هذه الشعوب في شمال ووسط
وغرب أوراسيا، وتشكّل فضاءً اقتصادياً وسياسياً لتركيا كبديلٍ عن الاتحاد الأوروبي،
وهذه الدول عموماً ترتبط بعلاقاتٍ جيّدة مع إيران وتعميقها يجنّب إيران الكثير من
المخطّطات الأميركية الخليجية في طوئفة الصراع معها وعليها.من هنا ليس عبثاً
اختيار العاصمة الكازاخية "الأستانة"، فكلمة "كازاخي" هي كلمةٌ
تركيةٌ الأصل وتعني "الحر والمستقل"أمّا كلمة "ستان" فهي كلمة
فارسية الأصل وتعني "موطن" أو "أرض" وبهذا، تعني كازاخستان
لغوياً "موطن الأحرار"، وفي السياسة "نقطة الالتقاء"بين
الترويكا (الروسية التركية الإيرانية" فكازاخستان إحدى جمهوريات الاتحاد
السوفياتي وإحدى الدول الناطقة بـ"التوركية"وبينها وبين إيران علاقاتٌ
تاريخيةٌ واقتصاديةٌ عميقة).
مسلحون في أحياء حلب
إذاً، مقاصد مؤتمر الأستانة أبعد من الجغرافيا السورية، ولكن انطلاقاً منها وتأسيساً على أزمتها، فالهدف الروسي الإيراني الأساس من هذا المؤتمر هو جرّ الكتلة التركية إلى الفضاء الأوراسي، بما يحقّق هدفين استراتيجيين لروسيا وإيران في آن. الهدف الأول هو إبعاد تركيا عن التكتّل الأطلسي، والهدف الثاني هو وضع حدٍ للمأساة السورية، مستفيدين من عاملين، العامل الأول هو الحنق التركيّ من السياسات الأميركية والأطلسية التي تلعب بالورقة الكردية كلما أرادوا ترويض السياسات التركية، بعكس إيران وسوريا والعراق المتقاطعين معها في الهمّ الكرديّ وتطلّعات بعض قادته إلى الكونفدرالية الواسعة، العامل الثاني الحاجة التركية إلى إبعاد خطر الإرهاب عنها وهيّ إحدى الملاذات الكبيرة للإرهابيين الوافدين والخارجين من سوريا والعراق وبرعايتها، وهنالك تخوفٌ تركيّ من نمذجَة الأزمة السورية على أراضيها، وحتى لا تكرّر تركيا تلك السياسة القذرة التي اتبعتها في سوريا في مناطق النفوذ المشترك في آسيا الوسطى مجداً، استوجب وضع شرطٍ واضحٍ في إعلان موسكو الذي أسّس لمقترح الأستانة وهو الانخراط التركي الواضح في الحرب على الإرهاب فقد أورد الإعلان صراحة تأكيد" روسيا وتركيا وإيران العزم على محاربة "داعش" و"النصرة" بشكل مشترك"، هذا الهدف المشترك الروسي الإيراني استلزم نقل الدور الأميركيّ في الأزمة السورية إلى تركيا، باعتبارها الأكثر تأثيراً على الفصائل المسلّحة هناك ورأس الحربة الأميركية في الحرب على سوريا، وعلى ما يبدو أنّ تركيا قبلت ممارسة هذا الدور وبدأت بتجميع أوراق القوة الميدانية والعسكرية بيدها عبر العمل على تشكيل كيانٍ عسكريّ موحّدٍ معارضٍ ربما تنبثق عنه هيئة سياسية، وإقصاء الائتلاف السوري والهيئة التفاوضية المنبثقة عن مؤتمر الرياض، في محاولةٍ لإقصاء السعودية وحلفائها، فروسيا تعلم جيّداً خطورة بقاء تركيا تحت العباءة الأميركية خصوصاً بعد قرار تزويد الفصائل المسلّحة السورية بالسلاح المتطوّر ومنظومات الدفاع الجوي، ولكنّ الطريق إلى الأستانة ليس سهلاً، فالولايات المتحدة وحلفاؤها سيزرعون الألغام حكماً على جنباته، ومن بين السيناريوهات انخراطٌ أميركيّ متزايدٌ في حرب "داعش"خصوصاً معركة الرقّة من بوابتي العراق والأردن، وهذا سيعيد الحسابات التركية إلى بدايات الأزمة وأوهام المناطق الآمنة ومناطق حظر الطيران، وعلى افتراض الوصول إلى مؤتمر الأستانة لن يتّضح الهدف والتوجّه التركي إلّا بشرطين، الأول نجاح المؤتمر في بلوغ اتفاقٍ شاملٍ لوقف إطلاق النار والشرط الثاني تنفيذه على الأرض، وفق رؤيةٍ سياسيةٍ اتُفق عليها في بيان موسكو، تؤكّد على سيادة ووحدة أراضي سوريا كدولةٍ ديمقراطيةٍ وعلمانية، والرئيس الأسد على رأس الدولة وفق التشريعات النافذة- الدستور الحالي-،أمّا فشل محادثات الأستانة بتعنّتٍ تركيّ يعني أنّ تركيا لم تحزم أمرها إلى أواسط آسيا بعيداً عن الكتلة الأطلسية، بل تستخدم الرغبة الروسية تلك فقط لتجميع أوراق قوةٍ تفاوض عليها الولايات المتحدة والدول الأوروبية باستخدام الفزّاعة الروسية، لتنقلب بعدها كما العادة على النوايا الروسية الصادقة في تعميق العلاقة مع تركيا وفتح فضاءاتٍ مشتركةٍ سياسياً واقتصادياً، وتجنّب الصِدام العسكري معها.
بالتالي تكون روسيا قد زجّت بكلّ أوراق الجذب التي تمتلكها مع تركيا ابتداءً من أنبوب السيل التركي إلى الحوافز الاقتصادية إلى تبني طموحات تركيا النووية لأغراض الطاقة، وصولاً إلى فتح المجال الأوراسي أمام نفوذٍ تركيّ.. وتوريث الدور الأميركي لها في حلّ الأزمة السورية.. وإعطائها دور الفاعل الأول على حساب السعودية في ضبط إيقاع سياسات الشرق الأوسط مع إيران،
وهنا نسأل ما الخيارات الروسية المحتملة إذا انقلبت تركيا على إعلان موسكو في مفاوضات الأستانة وأرادت تجييره لمصالحها فقط، أو مارست تركيا ذات الدور الأميركي توريثاً من دون أن يُفضي إلى نتائج إيجابية على الرؤية الروسية للعلاقة مع تركيا خصوصاً في سوريا؟ ونجيب تساؤلاً، هل سنشهد مساراتٍ تفاوضيةٍ جديدة أو إحياءٍ لمسارات قديمة ؟! أم أنّ القرار بخوض حربٍ لا مناصَ منها ضدّ الإرهاب باتت مسألة وقت بانتظار نتائج آخر المسارات التفاوضية؟!.