اتجاه لبنان نحو الصين: الفرص والتحديات

سعت الشركات الصينية للدخول إلى لبنان قبل حراك تشرين الأول 2019. وحتى بعد المطالبات اللبنانية بالاتجاه نحو الصين، أعلن العديد من الشركات الصينية استعداده للاستثمار.

  • إزاء الوضع المأساوي الذي يمر به لبنان، طلبت الحكومة اللبنانية مساعدة الدول الصديقة
    إزاء الوضع المأساوي الذي يمر به لبنان، طلبت الحكومة اللبنانية مساعدة الدول الصديقة

من منّا لا يتذكر الرئيس الصربي ألكساندر فوتشيتش عندما قال "أنا أثق بالصين، فهي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تساعدنا"، وذلك على خلفية المساعدات التي أرسلتها الصين إلى صربيا بعد أن تلكأت الدول الأوروبية في إرسال المساعدات الطبية إليها لمكافحة فيروس كورونا المستجدّ. وهل ننسى أن إيطاليا كانت من أكثر الدول إصابة بفيروس كورونا المستجدّ، ولمّا لم تتلقّ استجابة من الدول الأوروبية لإنقاذها من هذا الفيروس، هبّت الصين لمساعدتها؟

أما في لبنان، وعلى الرغم من الأوضاع الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد، والتي لم تشهد لها مثيلاً، إذ صنّف البنك الدولي الأزمة الاقتصادية اللبنانية أنها من بين أسوأ الأزمات التي مرّ بها العالم، وسط نقص في الأدوية والمواد الغذائية، وتقنين شديد في الكهرباء، ونقص في المحروقات، وفقدان الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها في السوق السوداء، وفي ظل غياب الدعم الخارجي، ما زال لبنان يخشى التوجه نحو الصين والشرق عموماً. 

إزاء الوضع المأساوي الذي يمر به لبنان، طلبت الحكومة اللبنانية مساعدة الدول الصديقة، وكان التوجه نحو الشرق خياراً لدى لبنان، الذي يعرف بانتمائه للغرب، بغرض انتشاله من الأوضاع المزرية التي يعيشها، والصين أحد هذه الخيارات. وبهدف التعاون مع الصين، اجتمع السفير الصيني السابق لدى لبنان وانغ كه جيان مع رئيس الوزراء المستقيل حسان دياب، للتباحث بشأن الاستثمارات الصينية في لبنان، ولكن الأمور لم تصل إلى نهاية سعيدة.

 سعت الشركات الصينية للدخول إلى لبنان قبل حراك تشرين الأول 2019. وحتى بعد المطالبات اللبنانية بالاتجاه نحو الصين، أعلن العديد من الشركات الصينية استعداده للاستثمار في مشاريع البنى التحتية والكهرباء ومعالجة النفايات والطاقة المتجددة. 

إن التوجه نحو الصين ليس بالأمر اليسير، ويعتريه العديد من الصعوبات، أبرزها أن لبنان منطقة نفوذ خاضعة للإدارة الأميركية، وهناك تخوف من أن التوجه نحو الصين سيعرّض لبنان أو المسؤولين اللبنانيين لعقوبات أميركية أو قد يُضرّ بمصالحهم الشخصية مع الغرب. ولكن للصين استثمارات ضخمة حول العالم، ومنها مناطق نفوذ أميركية، ولم تفرض الولايات المتحدة الأميركية عقوبات عليها. فأغلبية الدول العربية، إن لم نقل جميعها، تربطها علاقات كبيرة مع الصين، وللأخيرة استثمارات ضخمة فيها. ففي مصر مثلاً، تتولى الصين مشاريع ضخمة، منها بناء مشروع العاصمة الجديدة، ومشاريع كبيرة في البنى التحتية، وتطوير المنطقة الاقتصادية الخاصة بقناة السويس، وتطوير ميناء الاسكندرية. كما أن الجزائر تعتبر أكبر سوق للاستثمارات الصينية في مجال البنى التحتية في أفريقيا بعد نيجيريا، وتشمل أنشطة الصين فيها إنشاء المساكن، والمستشفيات، والبنى التحتية للنقل ومنشآت الطاقة. كذلك بنت الصين مسجد الجزائر الكبير، وشقت طريق شرق - غرب، والطريق الدولي شمال - جنوب، وتتولى الاستثمار في ميناء الحمدانية الذي من المتوقع أن يصبح أكبر ميناء في أفريقيا. وللصين استثمارات ضخمة في السعودية والإمارات وغيرهما من دول الخليج، ولها استثمارات ضخمة في "إسرائيل"، الحليف الأساس للولايات المتحدة الأميركية، حيث تستثمر في ميناء أسدود وميناء حيفا وفي السكك الحديدية. ولا يخفى أن المشاريع الصينية كانت محط خلاف، بلغ في بعض الأحيان حد التوتر بين الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل".

ومن الأسباب الأخرى التي تعيق التوجه نحو الصين أن بعض المسؤولين اللبنانيين يقلل من شأن التعامل مع الصين ويعتبر أن الغرب هو الأفضل للبنان. ربما يكون هذا الاعتقاد نابعاً من أن لبنان تابع للغرب منذ زمن بعيد، وأن الصين هي وافد جديد إلى المنطقة ولا يعرفون عنها الكثير. 

ومن بين الأسباب التي تدفع إلى عدم الحماسة نحو المشاريع الصينية أن المسؤولين اللبنانيين اعتادوا أن يحصلوا على إكراميات وعمولات مقابل الموافقة على المشاريع التي ستنفذ في لبنان، وأثبتت الأزمة الاقتصادية الأخيرة عمق الفساد المتفشي في لبنان، بينما الصين ترفض بشكل جذري هذه الأمور، لذلك فإن المشاريع الصينية لا تناسب البعض منهم، الذي يهرع نحو المشاريع التي تمكّنه من جني الثروات على حساب الوطن والمواطن. 

ومن ناحية أخرى، لا يكف الإعلام الغربي والإعلام  اللبناني المؤيد للغرب عن إظهار أن الصين تريد دخول لبنان وإيقاعه في فخ الديون كي يبقى خاضعاً لها، وأن دخول الصين، الصديقة لإيران، سوف يعزز وجود الأخيرة في لبنان ويقوّي من نفوذ حزب الله فيه. ويدّعي البعض أن الصين غير متحمسة للدخول إلى لبنان بسبب أوضاعه غير المستقرة ، وأنها لن تقف إلى جانب لبنان وتعارض الولايات المتحدة الأميركية.

صحيح أن الصين تفضّل دائماً العمل في جو آمن ومستقر، ولكن الشركات الصينية اتخذت خطوات جدية، فأرسلت العديد من الطلبات إلى الحكومة اللبنانية للاستثمار في مشاريع البنى التحتية والكهرباء والطاقة البديلة وغيرها من المشاريع، كما زارت الوفود الصينية لبنان للتباحث بشأن الاستثمار فيه، وتم أيضاً توقيع مذكرة تفاهم بين شركات صينية ووزارة الأشغال العامة في عهد الوزير يوسف فينيانوس بشأن أعمال سكة الحديد وقطاع النقل. كل هذه الأمور تبين مدى جدية الشركات الصينية للاستثمار في لبنان. وفي تصريح للسفير الصيني في لبنان، تشيان مينجيان، أشار إلى أن "بعض الشركات الصينية أبدى اهتماماً كبيراً بالاستثمار في مشاريع واسعة النطاق في قطاعات الطاقة والاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل والمياه وغيرها من مجالات البنية التحتية، ويقوم حالياً باستطلاع السوق اللبنانية".

ليس خفياً أن الصين استمرت لفترة طويلة في تجنّب التصادم مع الولايات المتحدة الأميركية من أجل منطقة الشرق الأوسط، ولكننا خلال السنوات الأخيرة بدأنا نلاحظ تغييرات ملموسة من طرف بكين التي بدأت تكثف أنشطتها في المنطقة التي زارها وزير خارجيتها وانغ يي مرتين في ظرف أربعة أشهر. ولعل أبرز ما حصل في الزيارتين هو توقيع الاتفاقية الاستراتيجية الشاملة مع إيران وزيارة سوريا البلدين اللذين تفرض أميركا عقوبات عليهما.

قد يجادل البعض في أن الصين ليست جمعية خيرية، وهي إذ تريد مساعدة لبنان فمن أجل مصلحتها في المقام الأول. صحيح أن الصين، وغيرها من الدول، لا تبادر إلى القيام بمشاريع ضخمة من أجل لا شيء، ولكن سياسة الصين في التعامل مع الدول الأخرى واضحة، تقوم على مبدأ المنفعة المتبادلة والكسب المشترك ومبدأ رابح رابح؛ بمعنى أن المشاريع الصينية ستعود بالنفع على الصين وعلى الطرف الآخر المتعاقد معها. 

ليس سراً أن اهتمام الصين بلبنان نابع من موقع الأخير في مبادرة الحزام والطريق التي انضم إليها في العام 2017. فلبنان نقطة عبور البضائع بين الشرق والغرب، كما أن له دوراً في عملية إعادة إعمار سوريا التي أعلنت الصين مراراً وتكراراً أنها على استعداد للمشاركة فيها، وإن دخول لبنان إلى مبادرة الحزام والطريق سيُسهم في تطوير البنى التحتية اللبنانية المتهالكة وتطوير المرافئ وإنعاش الاقتصاد وتوفير فرص العمل لمئات اللبنانيين وتأمين الكهرباء. لقد باتت الصين اليوم رقماً صعباً في المعادلة الدولية، وأصبحت قوة عظمى حققت تطوراً على جميع الأصعدة، والتعاون معها سيمكّن لبنان من الاستفادة من الخبرات الصينية في مجال البنى التحتية والتكنولوجيا المتطورة وغيرها.

على الرغم من أن الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان متدهور، وعلى الرغم أيضاً من غياب الحماسة لدى بعض المسؤولين اللبنانيين للاستثمارات الصينية، فإن الشركات الصينية ما زالت تبدي استعداداً للدخول إلى لبنان، وما زالت الصين تحرص على تطوير علاقاتها مع لبنان، ويستدل على ذلك من الرسالة التي بعث بها الرئيس الصيني شي جي بينغ إلى الرئيس اللبناني ميشال عون، حيث أكد الرئيس الصيني حرص بلاده على تطوير العلاقات مع لبنان لتعزيز الصداقة والتعاون المتبادل بما يخدم مصلحة البلدين والشعبين. كما أن السفير الصيني في لبنان، تشيان مينجيان، أكد في مقابلته مع وكالة أنباء شينخوا الصينية تعميق التعاون الثنائي مع لبنان وتعزيزه في مختلف المجالات، كما أشار إلى أن الصين حريصة على تشجيع الشركات الصينية على تقديم عروض لمشاريع تهدف إلى إعادة بناء مرفأ بيروت، عقب إعلان الحكومة خطتها في هذا الصدد. وللصين خبرة كبيرة في مجال بناء الموانئ وتوسيعها؛ فعلى مدار العقد الماضي، اشترت الصين حصصاً لها في موانئ بحرية في بلجيكا وفرنسا واليونان وإيطاليا وهولندا وألمانيا وأميركا اللاتينية، كما تمتلك الصين عشرة من أفضل موانئ العالم، يضاف إليها ميناء هونغ كونغ، وبذلك تحتل الصين المرتبة الأولى في القائمة العالمية، تليها الولايات المتحدة الأميركية التي لديها 9 موانئ ضمن القائمة.

لبنان بحاجة ماسة اليوم، في ظل الانهيار الذي يعيشه، إلى مساعدات عاجلة، ومن أي جهة صديقة، كما أن السلطات اللبنانية مدعوة إلى تنويع علاقاتها مع الشرق والغرب كي لا يبقى لبنان أسيراً للغرب. وإذا كان الخوف من فرض الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على لبنان، في حال توجهه نحو الصين، فإنه أصلاً منهار على جميع الأصعدة. ومن ناحية أخرى، وكما ذكرنا سابقاً، فإن للصين استثمارات بمليارات الدولارات في العديد من الدول العربية، ولم تفرض واشنطن عقوبات عليها.