التسليع السياسيّ للمياه في العلاقات الدوليّة
تحولت المياه إلى قضيةٍ محوريةٍ، وباتت عنصراً مهماً في السياسات الدولية، وعنصراً مهماً للسلام والأمن الدوليّين راهناً ومستقبلاً، ولاسيما في العقدين المقبلين .
لطالما كانت المياه مادةً للتنافس والصراع بين الدول، ولاسيّما بين الدول التي لها مواردُ مائيةٌ مشتركةٌ. وفي فتراتٍ معينةٍ، كادت تتسع رقعة تلك الصراعات وتتحول إلى صدامٍ عسكريٍّ مباشِرٍ، كالنزاع بين بوليفيا وشيلي على مياه نهر لوكا (Louca) الدولي المشترك، والنزاع الهندي الباكستاني بشأن مياه نهر السند/اندوس، والنزاع بين الأردن و"إسرائيل" بخصوص مياه نهر الأردن، والصراع بين سوريا وتركيا بشأن نهر الفرات (1998)، والنزاعات الثنائية بين دول آسيا الوسطى فيما يتعلق بنهري سير داريا وأمو داريا، ومؤخراً النزاع بين مصر وإثيوبيا بسبب سدّ النهضة على نهر النيل (2021).
لكن راهناً، مع الندرة في مصادر مياه الشرب والريّ، وارتفاع درجات الحرارة المسبِّبة للتبخُّر، والتغير المناخيّ في بعض المناطق الجيوسياسية، والذي يهدِّد بارتفاع مستويات سطح البحر وما يعنيه من زيادة ملوحة التربة، والتملّح ببعض المسطّحات المائية، كالذي يحدث في دلتا النيل، بالإضافة إلى الانفجار السكانيّ العالميّ، الذي تجاوز 7.6 مليارات نسمة، تحولت المياه إلى قضيةٍ محوريةٍ، وباتت عنصراً مهماً في السياسات الدولية، وعنصراً مهماً للسلام والأمن الدوليّين راهناً ومستقبلاً، ولاسيما في العقدين المقبلين مع توقّع ارتفاع الطلب على المياه العذبة بنسبةٍ تفوق 55% بحلول عام 2045.
مع التغيرّات الجارية في بنية النظام الدوليّ، وتطلُّع بعض الدول الإقليمية إلى أداء دورٍ مؤثّرٍ في محيطها، في مرحلة اللاّتعيين التي يمر فيها النظام الدوليّ، ومع عدم وجود منظومةٍ قانونيةٍ متفَقٍ عليها أولاً وملزمةٍ ثانياً للأنهار الدولية العابرة والمشتركة، ظهر لدينا مفهومٌ جديدٌ في العلاقات الدولية، وهو استخدام المياه كإحدى أدوات الاستراتيجية لدى الدول، ومعه ظهر مصطلح جيوبولتيك المياه؛ أيّ استخدام المياه أداةً للهيمنة على الدول الأخرى، والتأثير في قراراتها وسياساتها نظراً إلى قدرتها على التحكم في مصادر المياه. ونرى هذه النماذج في أنهار النيل، ودجلة، والفرات، وبراهمابوترا وميكونغ، بالإضافة إلى نهريّ سير داريا وأمو داريا. وجيوبولتيك المياه هو واحد من ثلاثة استخدامات للمياه في السياسة الدولية، ضمن ما يمكن أن نسميه "التسليع السياسيّ للمياه في العلاقات الدولية"، والذي يتضمّن:
- بيع المياه (العذبة) للدول الأخرى لتحقيق أجنداتٍ اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ.
- التحكم في مصادر المياه المشتركة لتحقيق التأثير سياسيّاً واستراتيجّياً في "دول العبور والمصبّ"، أو ما يُسمى "جيوبولتيك المياه".
- المياه كسلعةٍ استراتيجيةٍ قابلةٍ للمقايضة مع سلعة استراتيجيةٍ أُخرى كمصادر الطاقة.
نرى الاستخدام الأول في سياسات تركيا لبيع المياه لقبرص التركية من خلال أنابيب "أنامور" المعلقة في البحر المتوسط، بمعدّلٍ وسطيّ (75 مليون م³). وهنا الأهداف هي سياسيةٌ واقتصاديةٌ في آنّ واحد، ومرتبطة بالصراع على الجزيرة القبرصية مع اليونان. وكذا الأمر فيما يتعلّق بمقترحات بيع تركيا للمياه لـ"إسرائيل" بمعدل 100 مليون م³ سنوياً. والمفاوضات تجري مع الأردن في هذا الشأن. وثمة مقترحات لبيع إثيوبيا المياه لمصر والسودان (2020). كما أنّ دخول الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقومية، يدخل ضمن هذا الاطار، إذ يكشف سجل المُلكية الأجنبية للحكومة الفيدرالية الأسترالية أنّ المستثمرين من الصين والولايات المتحدة لديهم الحصة الأكبر في استحقاقات المياه المملوكة للأجانب في أستراليا، بمعدل واحد من كلّ عشرة من مستحقات المياه المملوكة للأجانب. وكذلك الأمر بشأن مقترحات بيع قرغيزستان المياه لأوزباكستان، بحيث أثارت قيرغيزستان مسألة دفع ثمن المياه من سدودها، والذي يذهب إلى أوزبكستان وكازاخستان، وذلك عندما تحدث رئيس وزراء قيرغيزستان السابق، تيمير سارييف، في اجتماع في دوشانبي (2015) عن عدم وجود آليةٍ ماليةٍ لقيرغيزستان وطاجيكستان لتوصيل المياه إلى دول المصب.
أمّا الاستخدام الثاني للتسليع فهو جيوبولتيك المياه، كالذي تمارسه تركيا على كلّ من سوريا والعراق بعد خفض كمية تدفق النهر إلى ما دون 200 م³/ثا، بعد أن كانت الاتفاقية الثنائية لعام 1987 تنص على 500 م³ /ثا، (بنسبة 58% لسوريا، و42 % للعراق، بموجب اتفاق 1992). والهدف استخدام المياه سلاحاً في المعارك الدائرة في الشمال السوريّ، والضغط لتنفيذ أجنداتها الجيوبولتيكية العدوانية هنالك. ومن الممكن إدراج بناء السدود الصينية على طول نهر تسانجبو (براهمابوترا) الذي يؤثّر في الهند، على نحو كبير، ويمثّل أكثر من 25٪ من إجمالي موارد المياه في الهند في هذا الإطار، لأنّ التدفق المنخفض سيكون له تأثيرٌ سلبيٌّ في الاقتصاد والبيئة في شمالي شرقي الهند، وهو ضمن الصراع الحدوديّ التاريخي بين الهند والصين.
وكذلك الأمر، وسّعت الصين أهدافها لنهر ميكونغ، من خلال بناء سدودٍ كهرومائيةٍ جديدةٍ وإنشاء هيئةٍ حاكمةٍ جديدةٍ على النهر وتمويلها، الأمر الذي يمكن أن يعدّ خطوةً أساسيةً في محاولة الصين إبرازَ نفسها قوةً إقليميةً رئيسةً في جنوبي شرقي آسيا. وكذلك الأمر، فإنّ بيع "إسرائيل" للأردن كمياتٍ من المياه، تقدَّر بـ 50 مليون م³، حتى نهاية عام 2022، يُعَدّ في سياق جيوبولتيك المياه، الذي يهدف إلى الضغط على الأردن بشأن موقفها من صفقة القرن، وتحديداً ملف القدس المحتلة، باعتبارها مشرفاً عليها، فمنذ عام 1988، تُعَدّ الأردن مسؤولةً عن الأوقاف الإسلامية في القدس، والتي تكرسّت بعد اتفاقية الدفاع عن القدس والمقدسات بين دولة فلسطين والأردن في آذار/مارس 2013.
والمثال الأخير الذي سنستشهد به، هو في آسيا الوسطى، حيث قررت طاجيكستان وقيرغيزستان استغلال محطات الطاقة الكهرومائية على مدار العام، وبناء مرافق طاقةٍ مائيةٍ كبيرةٍ جديدةٍ (على نهر بانج) في طاجيكستان، بالإضافة إلى اثنين على نهر Naryn، في قيرغيزستان. هذه الخطط تُنذر بالخطر على أوزبكستان، الدولة المجاورة، إذ يخشى الأوزبك من أنّ التنظيم الإضافيّ لهذه الأنهار سيسمح لطاجيكستان وقيرغيزستان بالتحكم الكامل في تدفق المياه. وبالتالي، فإنّ أولويات الطاقة لدول المنبع تتعارض مع المصالح الزراعية لدول المصب. فالأولى تحتاج إلى الكهرباء، والثانية تحتاج إلى مياهٍ للزراعة المروية. ونتيجةً لذلك، ستتفاقم الصراعات في آسيا الوسطى بسبب المياه.
أمّا الاستخدام الثالث للتسليع السياسيّ للمياه، فهو المقايضة، بمعنى بين المياه في مقابل السلع الاستراتيجية، كمشروع "أنابيب السلام التركي" (1978) لبيع المياه الطاقة لمنطقة الخليج في مقابل الطاقة، ومشروع "مناوجات" لتبادل المياه والطاقة (التركيّ الإسرائيليّ)، عام 1991، والحديث عن اتفاقٍ لمدة عشرين عاماً، وكذلك الأمر بما يتعلق بمشروع الطاقة والمياه في آسيا الوسطى بين دول المنبع والمصب، إذ يشكل نهر سير داريا، من قيرغيزستان عبر أوزبكستان وكازاخستان، ونهر أمو داريا، من طاجيكستان عبر أوزبكستان وتركمانستان، النهرين الرئيسيين في المنطقة، واللذين يتدفقان إلى بحر آرال.
ونشأ نمطٌ من التبادل والمدفوعات بين دول حوض النهرين، بحيث تتبادل دول المنبع (قرغيزستان وطاجيكستان) المياه في مقابل الطاقة، مثل الغاز أو الفحم أو النفط، مع دول المصب الثلاث: كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان. ختاماَ، أضحت المياه واحداً من الأسس المحدِّدة لمصادر القوة السياسية للدول، كما الضعف أيضاً، وإحدى أدوات الهيمنة وبروز قوىً إقليمية تعتمد على جيوبولتيك المياه من أجل فرض سياساتها على محيطها الإقليميّ، وهو ما يُنذر بتفاقم الصراعات، ولاسيما في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا. لذلك، من الجائز القول إنّ القرن الحادي والعشرين سيكون قرن تسليع المياه سياسياً، من دون إغفال أنّ تجارة المياه دولياً ستكون أحد أهم الاستثمارات في موجة العولمة الرابعة في القرن الحادي والعشرين، والمقترنة بالثورة الصناعية الرابعة. ومع بدء الألفية الثالثة، أضحت القروض الدولية بشأن المياه رائجةً، وخصوصاً من صندوق النقد الدولي. وأصبحت تجارة المياه رائجة عالمياً، وذلك لتخفيف الضغط على موارد المياه المحلية في الدول المستوردة، وهيّ تقدر بنحو 300 مليار دولار، بحسب شركة ريبورت لينكر المتخصصة. ومع ندرة المياه، ستحتكر دولٌ محددةٌ صناعاتٍ معينةً تعتمد على الاستخدام الكثيف للمياه.