محور المقاومة.. النشأة والتطوّر ووحدة المصير
تبلور وجود محور المقاومة وثقله خلال العقود الثلاثة السابقة، من دون وجود اتفاق هيكلي أو اتحاد شكلي أو بنية تنظيمية مؤسَّساتية
فرض محور المقاومة نفسه بقوة الأمر الواقع في منطقة الشرق الأوسط، نتيجة التطورات والأحداث المتسارعة والمتراكمة خلال العقود السابقة، والتي شملت مساعي أميركية وإسرائيلية للاستفراد بالمنطقة والهيمنة عليها، بالقوة العسكرية أو بفرض عمليات "سلام" مختلَّة الموازين لمصلحة الكيان الإسرائيلي، وناقصة الحقوق بالنسبة إلى الشعوب العربية عموماً، والفلسطينية خصوصاً.
تبلور وجود هذا المحور وثقله خلال العقود الثلاثة السابقة، من دون وجود اتفاق هيكلي أو اتحاد شكلي أو بنية تنظيمية مؤسَّساتية. ومن خلال متابعة التطورات وطبيعة الصراع الجيوستراتيجي القائم على مستوى المنطقة، فإنَّ محور المقاومة الذي بدأت دائرة أعضائه بالاتساع والزيادة، مرَّ بثلاث مراحل متتالية.
مرحلة النشأة والوجود (1979 - 1990)
تميّزت هذه المرحلة بنواة الوجود لا التأسيس، لأن مكوناتها لم تكن على شكل تكتل مؤسساتي بقدر الحاجة الضرورية على الصعيدين الوجودي والمصيري. شهدت هذه الفترة خروج مصر - الثقل العربي - من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي بعد توقيع الرئيس المصري أنور السادات على اتفاقيتي "السلام" و"كامب ديفيد" مع الكيان الإسرائيلي، وإقامة العلاقات الدبلوماسية معه في العامين 1978 و1979، ما جعل سوريا، الضلع الرئيس في المحور، وحيدة في ساحة الصراع مع الكيان، في ظلّ تزايد الخلافات البينية العربية وخروج مصر من الصراع والتفوّق العسكري للكيان الصهيوني بدعم أميركي.
كما شهدت هذه الفترة نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الإمام الخميني في شباط/فبراير 1979 في تحقيق أهدافها بإطاحة نظام الشاه الذي كان ينفّذ السياسات الأميركية في المنطقة، ورفع شعار معاداة الكيان الصهيوني، ورفض الخضوع للهيمنة الأميركية، وتحرير فلسطين، ودعم خيار الشعب الفلسطيني في المقاومة، وهو ما ساهم في تلاقي الأهداف بين سوريا والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
بعد ذلك بثلاث سنوات، ونتيجة الظّروف التي غلب عليها الكفاح والمقاومة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً بعد اجتياحه بيروت في حزيران/يونيو 1982 أثناء الحرب الأهلية، وبعد زيارة "مجموعة التسعة" لطهران ولقائهم المرشد، والاتفاق على تأسيس "حزب الله" الَّذي حمل تسمية "المقاومة الإسلامية" منذ ذلك الحين وحتى العام 1985.
وخلال الذكرى الأولى لاغتيال شهيد شهداء المقاومة الشيخ راغب حرب، تمَّ الإعلان عن "الرسالة المفتوحة" التي أعلنت انتقال الحزب من العمل بطابع سري إلى العمل المقاوم عسكرياً وسياسياً بشكل علني. وقد اكتسب الحزب شهرة عربية مبكرة بعد استهدافه مقر القوات الأميركية - الفرنسية في لبنان في تشرين الأول/أكتوبر 1983، ومقتل 300 جندي.
هذه التطوّرات الثلاثة ساهمت في التقارب الاستراتيجي بين فواعل المقاومة الثلاثة، وكان أبرزها الاتفاق الاستراتيجي على مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى العرب والمسلمين، واعتماد الكفاح المسلَّح للوصول إلى الغاية الأسمى، ولكن في هذه المرحلة لم يكن المحور قد تبلور بالتعاون الفعّال بعد.
مرحلة التّقارب والتكامل وتغيّر موازين القوى في المنطقة (1990 - 2006)
شكّلت نهاية المرحلة السّابقة وبداية هذه المرحلة، من اعتداء عراقيّ على إيران بفعل عوامل مساعدة خليجياً وغربياً، وآخر عراقي على الكويت، نجم عنه زيادة الخلافات العربيّة العربيّة وخرق الأمن القومي العربي، من خلال استدعاء قوات أميركية إلى الخليج، ومن ثم تمكّن الكيان الإسرائيلي من التوصّل إلى اتفاقيات "سلام" منفردة، تمثلت بالتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية عبر اتفاقية "أوسلو"، ومن ثم "وادي عربية" مع الأردن في العامين 1993 و1994 على التوالي، بعد فشل مساعي الأمم المتحدة في إنجاح مؤتمر مدريد 1991، وتفرد واشنطن بالنظام الدولي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وغياب أيّ دعم عربي لانتفاضة القدس الأولى 1987... كل ذلك شكل دافعاً قوياً لزيادة التقارب بين سوريا وإيران من ناحية، وبين هذين الفاعلين و"حزب الله" والحركات المقاومة الفلسطينية من ناحية أخرى.
أسهمت هذه التطورات في تبيان حقيقة المسعى الأميركي لتغذية النزاعات بين دول المنطقة، والتي تشكل تهديداً لأمن الكيان الإسرائيلي بما تملكه من قوة، وخلق صراعات جانبية، بالتوازي مع عدم حياد الوسيط الأميركي الذي كان يدعم التوجّه الصهيوني بإقامة "سلام" منفرد على صيغة فرض الأمر الواقع من القوي على الضعيف، في اللجوء إلى تأمين مقومات الاستعداد والتدريب والتصدي.
شكّلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية عامل دعم سياسي ولوجستي لحركات المقاومة، بينما مثّلت سوريا ساحات التدريب والغطاء السياسي والدعم العسكري لها - أدى المرحوم باسل الأسد دوراً كبيراً في ذلك - وهو ما انعكس بشكل جلي على أداء العمليات الفدائية لحركات المقاومة، والتي تمثلت بداية في إيقاع الخسائر بالعدو الإسرائيلي في عدوان تصفية الحسابات في تموز/يوليو 1993، ومن ثم "عناقيد الغضب" في نيسان/أبريل 1996، وصولاً إلى تمكّن المقاومة اللبنانية في لبنان من إجباره على الانسحاب من معظم أراضي الجنوب المحتلّة والبقاع الغربي بصورة مهينة في 24 أيار/مايو 2000، بعد استنزافه بعمليات بطوليّة.
في المقابل، إنَّ نشاط حركات المقاومة في فلسطين لم يكن أقل وطأة من نظيراتها في لبنان، إذ تمكّنت هذه المقاومة، وبفعل الدعم السوري الإيراني المشترك، من إجبار "جيش" العدو الإسرائيلي على الانسحاب من قطاع غزة.
بعد تحرير أيار/مايو في لبنان، ومع تولّي الرئيس بشار الأسد الحكم في سوريا بعد وفاة والده، أثبتت القناعة السورية وسياساتها أنّ المقاومة هي السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق والتصدي لما يحاك للمنطقة، والذي سرعان ما كشفت عنه واشنطن أثناء وبعد غزوها للعراق 2003، عبر رسالة وزير خارجيتها كولن بأول لسوريا، وهو ما دفع دمشق - طهران إلى تكثيف التعاون العسكري والسياسي مع المقاومة، وتحمّل كل الضغوط للحفاظ عليها، وتعزيز إمكانياتها في كل المجالات، ما ساهم بشكل فعلي في تحقيق النصر الإلهي في عدوان تموز 2006، والذي كان نواة قلب الموازين على مستوى الصراع في المنطقة وتبلور وجود محور المقاومة وتعاونه، وهو الذي تلقَّت من خلاله "إسرائيل"، ومن خلفها الولايات المتحدة، صفعة مؤلمة ونكسة يُبنى عليها الكثير من النكسات في ما بعد، حتى إن الانقسام في المواقف والتوصيفات السياسية لدول المنطقة أصبح كله يدور بين مصطلحين: الأول دول الاعتدال، والآخر محور المقاومة.
مرحلة كسر العظم والنصر على الإرهاب منذ العام 2006
بعد تعسّر ولادة "الفوضى الخلاقة" التي كانت واشنطن وتل أبيب تسعيان لإحداثها في المنطقة بالقوة العسكرية المباشرة، لجآ إلى تضييق الخناق على إيران وسوريا و"حزب الله" واتهامهم بالإرهاب وتضييق الخيارات عليهم، إذ تمَّ توجيه الاتهامات السياسة بمقتل رفيق الحريري إلى كلّ من سوريا و"حزب الله"، ومن ثم مورست الضغوط لخروج سوريا من لبنان وإبعادها عن دعم الحزب، بالتوازي مع طرح ما سمي بقانون "محاسبة سوريا"، بالتزامن مع تشديد الخناق الاقتصادي والعقوبات الجائرة على إيران وزيادة الحصار المفروض على الفصائل الفلسطينية في فلسطين ودعم معارضتها في الخارج، وصولاً إلى ما سمي بـ"الربيع العربي" واندلاع الأزمة السورية والعدوان على اليمن.
عبّرت هذه المرحلة عن توجه أميركيّ غربيّ لاستهداف محور المقاومة من الداخل، من خلال استهداف كينوناته الجغرافية وتحريض بيته الاجتماعي وتجفيف منابعه المادية، بالتزامن مع تقوية خصومه من معارضين أو أحزاب منافسة لا تخفي تبعيتها وولاءها للمحور الآخر.
في العام 2011، اغتنمت الولايات المتّحدة والدول الغربية، إلى جانب الكيان الإسرائيلي وبعض الدول، الفرصة للنيل من سوريا وتغيير النظام فيها، والهدف كان إسقاط حلقة الوصل الرابطة جغرافياً بين المحور، وإفقاده شرعيته ومبررات بقائه في حال تغير النظام، وأخيراً حتمية انهيار المحور في حال نجح ما كان يُرتّب لسوريا والمنطقة، فضلاً عن تأثر المحيط بالفوضى التي تنجم عما يحصل في سوريا.
لذلك، كان الوقوف إلى جانب سوريا ودعمها وتقديم التضحيات لأجلها من الحاجات الضرورية والمصيرية للمحور بأكمله. وما يؤكد ذلك أنَّ انتشار الإرهاب لم يكن محصوراً داخل الجغرافيا السورية، بل طال لبنان والعراق وإيران أيضاً.
لذلك، واجه محور المقاومة أكثر التحديات صعوبة في الأزمة السورية، لأنَّها كانت تشكّل جيلين من الحروب، هما الجيلان الرابع والخامس، واللذان يعتمدان على إحداث الفوضى من الداخل، وتغذية الصراعات الداخلية بالمال والسلاح والفكر، وتشويه صورة المؤسّسات، وهو ما حصل، سواء من خلال محاولة شيطنة الجيش العربي السوري عبر وسائل الإعلام، واتهامه بارتكاب مجازر بحق الشعب السوري، أو من خلال اتهام إيران بتغذية الإرهاب، أو عبر توجيه الاتهام إلى "حزب الله" في التدخل بشؤون السورية وجلب الويلات إلى لبنان، بحسب ادعاءات فريق "14 آذار".
رغم كلّ ذلك، استطاع المحور الحفاظ على وجوده وقدرته على استيعاب ما حصل، ومن ثم تغيير الواقع المفروض. وفي هذه المرحلة، شهدنا أشكالاً جديدة من الصراع، إذ لم تعد القوة العسكرية هي الأساس، بل بات الصراع يأخذ أساليب أكثر اتساعاً وأكثر خطورةً، سواء من حيث الصّراع الفكري والنفسي والإعلامي والأيديولوجي والاقتصادي الذي طال لقمة عيش المواطن، أو من حيث تحقيق خرق في موازين القوى التي باتت يقلق أميركا و"إسرائيل".
رغم ذلك، تمكَّن المحور من تسجيل انتصارات عديدة في الكثير من هذه الصّراعات، بل لم تتأثر قدراته الدفاعية في مقارعة العدو، سواء من خلال استمرار المقاومة اللبنانية بفرض معادلاتها مع الكيان وتنفيذها عمليات انتقاماً لاستشهاد عناصرها في سوريا، أو من خلال قدرة الجيش السوري على التصدي للاعتداءات الإسرائيلية عليه، بعد مرور عقد على حرب الاستنزاف التي تخاض ضده من قبل مجاميع إرهابية، أو عبر التكنولوجيا والقدرات الصناعية التي امتلكتها إيران ومكَّنتها من كسر هيبة أميركا في قصف قاعدة "عين الأسد"، في انتقامها لاغتيال اللواء قاسم سليماني، أو من خلال ما سطَّرته المقاومة الإيرانية من إنجازات بالدفاع عن اليمن وكشف دول العدوان على حقيقتهما، أو ما قدمته المقاومة العراقية من ولاء وعدم انجرار إلى حرب أهلية في محاربتها تنظيم "داعش" الإرهابي، وصولاً إلى النصر العظيم الذي حقّقته المقاومة الفلسطينية في معركة "سيف القدس" هذا العام.
وبناء عليه، يمكن القول:
1. إنَّ ما يربط محور المقاومة هو القضية المركزية التي تعتبر القضيّة الأسمى بالنسبة إليه، والتي تتمثّل في تحرير القدس، وليس الرابط الطائفي، كما يتّهم به. والدليل على ذلك أنَّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذات الأغلبية الشيعية تدعم فصائل المقاومة السنية في فلسطين، وأنَّ الخلافات التي حصلت لم تؤثر في القرار الاستراتيجي، وهو ما تمثل في معركة "سيف القدس" التي استخدمت فيها كتائب "القسام"، الذراع العسكرية لحركة "حماس"، أسلحة سورية أو روسية تم شراؤها بأموال سورية، رغم خلاف دمشق مع "حماس"، نتيجة مشاركة الأخيرة في العدوان عليها. وتعدّ تحيّة الرئيس الأسد لكلّ فصائل المقاومة خير دليل على إعلاء الأمور الاستراتيجية على باقي الأمور.
2. المقاومة الَّتي طُرحت كشعار، ومن ثم مشروع، أضحت تمثل اليوم محوراً. وقد تزايدت أطرافه، وما زال قادراً على استيعاب المزيد، وتطوَّر من تعاون إلى تداخل في الجبهات وتوحّد في الوجود والمصير.
3. بات محور المقاومة اليوم يمتلك القدرة على فرض معادلات جديدة في طبيعة الاشتباك مع الكيان الإسرائيلي، نتيجة الخبرات التراكمية القتالية والتقدم الصناعي التكنولوجي والعسكري الذي امتلكه، وهو ما ساهم في عدم خضوعه لابتزاز من الدول الأخرى أو لمشروطية استخدام الأسلحة.
4. لولا محور المقاومة ووجوده وتأثيره، لكانت الولايات المتحدة الأميركية تمكَّنت من تصفية القضية الفلسطينية عبر "صفقة القرن"، وسط تخاذل بعض الدول العربية التي قدمت المليارات لإسقاط المحور، لصالح بقائها والحفاظ على علاقاتها مع "إسرائيل".
5. لأوَّل مرة في التاريخ الحديث، ومنذ حرب تشرين التحريرية، تمكَّنت بعض قوى المقاومة من أداء دور في العراق ولبنان، لإحداث تقارب وتعاون وعمل عسكري مشترك بين جيشين عربيين، بعيداً عن الموافقة الأميركية.
6. إنَّ محور المقاومة حقَّق إنجازات عسكرية، وأقلّ منها سياسية، ولكنه اليوم ما زال ضعيفاً أمام إحداث تكامل وتعاون اقتصادي على مستوى المجالين السابقين، ما يشكّل خطراً عليه في ظلّ الحصار الاقتصادي المفروض عليه، وهو اليوم أمام أحد أبرز التحديات الوجودية بالنسبة إليه، وتحتاج كل أطراف المحور وفاعليه إلى اتخاذ قرار حاسم وسريع لتجاوز هذه التحدي، فتقديم القروض والحلول الإسعافية لا يكفي، بل لا بدَّ من شراكة اقتصادية حقيقية تتوّج ما حقّقه في السابق من إنجازات، فالأموال موجودة، والموارد الأولية متنوّعة وكافية، والعقول حاضرة. كلّ ما يحتاجه المحور هو القرار السياسي والبيئة الخالية من الفساد لتحقيق ذلك.