قمة بغداد الثلاثية وأولويات العراق الخارجية

الاهتمام الاستثنائي تمحور حول وجود زعامات عربية كبيرة ومهمة في العراق، الذي ضعف تواصله الخارجي مع محيطه الإقليمي وعموم الفضاء الدولي، منذ غزو نظام صدام لدولة الكويت في صيف عام 1990.

  • قمة بغداد الثلاثية وأولويات العراق الخارجية
    الأجواء السياسية الإيجابية في العراق حيال حدث القمة، عكست إمكان تحقيق تفاهمات نسبية بين الفرقاء

حظيت القمة الثلاثية (العراقية – الأردنية-المصرية)، والتي استضافتها العاصمة العراقية بغداد، في السابع والعشرين من شهر حزيران/يونيو الماضي، باهتمام استثنائي نوعاً ما، ارتبط،في جانب كبير منه، بقضايا شكلية أكثر من ارتباطه بمُخرَجات القمة، التي تُعَد القمة الثلاثية الرابعة، بعد ثلاث قمم مماثلة، عُقدت في كل من القاهرة (آذار/مارس 2019)، ونيويورك (أيلول/سبتمبر 2019)، وعمّان (آب/أغسطس 2020).

الاهتمام الاستثنائي تمحور حول وجود زعامات عربية كبيرة ومهمة في العراق، الذي ضعف تواصله الخارجي مع محيطه الإقليمي وعموم الفضاء الدولي، منذ غزو نظام صدام لدولة الكويت في صيف عام 1990. ولم تتغيّر الصورة كثيراًبعد سقوط ذلك النظام كثيراً، نتيجة أسباب،بعضها سياسيٌّ، وبعضها الآخَر أمنيّ. وأكثر من ذلك، فإن زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، جاءت بعد أكثر من ثلاثين عاماً على آخر زيارة لرئيس مصري للعراق قام بها الراحل محمد حسني مبارك، وتحديداً قبل غزو الكويت بأسبوع واحد.

كذلك، تمحور الاهتمام الاستثنائي بقمة بغداد، من زاوية البعد المعنوي بالنسبة إلى العراق، في ظل ظروف شائكة ومعقَّدة يعيشها منذ أعوام طويلة، فضلاً عن تحديات كبيرة ما زال يواجهها، سواء من الداخل أو من الخارج، تُمْلي عليه التواصل والانفتاح، في أقصى قدر ممكن، علىالإقليم وعموم المجتمع الدولي، على نحو يساهم في تعزيز حضوره، وحلحلة مشكلاته وأزماته، وفتح آفاق وفرص جديدة للتعاون مع الآخرين.

إلى جانب ذلك، فإن الأجواء السياسية الإيجابية في العراق حيال حدث القمة، عكست إمكانية تحقيق تفاهمات نسبية بين الفرقاء، والالتقاء عند نقاط معينة، على الرغم من الكثير من الخلافات والاختلافات والتقاطعات، في مشهد سياسي تغلب عليه الفوضى والاضطراب والارتباك في معظم الأحيان.

هذه الصورة الإجمالية لقمّة بغداد الثلاثية، من الطبيعي جداً أن يتخلّلها كثير من التعرُّجات والمطبّات والعراقيل والعقبات، ناهيك بما يجري على أرض الواقع، والتي لم ترصدها - بل قد لاتحرص على رصدها - عدسات التصوير، وشاشات القنوات الفضائية، ومنصات وكالات الأنباء والتواصل الاجتماعي، وإنما تتضمنها القراءات التحليلية الدقيقة والعميقة، والتي تأخذ فيالاعتبار الأبعاد الواسعة لعوامل الزمان والمكان وطبيعة الوسائل والأدوات في تشكيل المواقف، وبناء السياسات، وصياغة التوجهات.

 هنا، من المهم الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن قمة بغداد الثلاثية، لم تخرج بنتائج ومعطيات عملية واضحة، لها سقوف محدَّدة للتطبيق على أرض الواقع، وإنما كانت مخرجاتها عبارة عن تأكيد مبادئ عامة للتعاون، سياسياً وأمنياًواقتصادياً، وتعزيز العلاقات بين الأطراف الثلاثة، على نحو يساهم في حلّ أزمات المنطقةومشاكلها، ومعالجتها، ومحاربة الإرهاب، ومواجهة التهديدات والتحديات.

بعبارة أخرى، لم تبدأ قمة بغداد من حيث انتهت قمة عمّان أو قمة نيويورك أو قمة القاهرة، وإنما بدت كأنها نسخة مكرَّرة عن سابقاتها. ولعلَّ أغلبية ما تضمَّنته كلمة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خلال القمة، أكدت، بصورة أو بأخرى، تلك الحقيقة. وكان بين ما قاله "هناك عدد من مذكِّرات التفاهم جرى التوقيع عليها في السابق بين الدول الثلاث، وهناك مذكِّرات واتفاقيات سنوقّع عليها في المستقبل القريب.ونعمل على إقامة سكرتارية دائمة لتنسيق العمل بين الدول الثلاث.

ويتمّ العمل على تطوير ما نتفق عليه ومتابعته، وتعزيز التنسيق في المجالين الأمني والاستخباري، وخصوصاً فيما يتعلق بمواجهة الإرهاب وتمويله، بالإضافة الى التنسيق في مجالَي التعليم والثقافة، وفي مجالات الشباب والرياضة والفنون والصحة.

ونحن حريصون على استمرار هذا العمل، وتطوير العلاقات، من أجل بناء المشتركات التي تخدم الجميع. ونحاول أن نبلور آلية التعاون الثلاثي، ونسخّر كل الجهود والإمكانات كي نحافظ على مستوى هذا التعاون".

ولم تختلف كلمات كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والملك الأردني عبد الله الثاني، من حيث المضمون، عن كلمة الكاظمي. وكذلك، لم تختلف، مجتمعةً، كثيراً عن كلمات القمم السابقةوخطبها.

وفي إطار رؤية تبدو واقعية، إلى حد كبير، فإن الدول الثلاث، والتي تتشابه في ظروفها السياسية والأمنية والاقتصادية، وفي مستويات خبرتها المتاحة، من الصعب جداً أن تساعدإحداها الأخرى، في التقدم إلى الأمام. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للعراق أن ينهض في المجالين الاقتصادي والاستثماري، وينجح في إعادة بناه التحتية وتنمية قطاعات الإسكان والصحة والتعليم لديه، بمساعدة عمّان والقاهرة، لأن هذين الطرفين لا يمتلكان إمكانات مالية ضخمة، ولا قدرات تقنية وعلمية يُعتَدّ بها، كما تمتلكها دول عربية وأجنبية، مثل تركيا وإيران والسعودية، كقوى إقليمية كبيرة في المنطقة، أو الصين والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا واليابان ومنظومة الاتحاد الأوروبي، كأطراف دولية لها ثقلها وتأثيرها ونفوذها.

من غير المعقول، ولا المنطقي، الاستعانة بدول يعتمد مجمل اقتصاداتها على المنح والقروض والإعانات، ناهيك بمواجهتها المشكلاتوالأزمات ذاتها، وإن كان في نِسَب متفاوتة.أضف إلى ذلك، أن مشروع "المشرق الجديد"، الذي طرحه الكاظمي في أوقات سابقة، باعتباره نواة لتجمع إقليمي واسع، ينطلق من بغداد والقاهرة وعمّان، ليمتدّ الى دمشق وبيروت وعواصم أخرى.

وينظر إليه البعض على  أنهالوجه الآخر لمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، الذي طرحه قبل نحو عقدين من الزمن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الراحل شيمون بيريز، ضمن جهود "تل أبيب" وواشنطن ومساعيهمالإعادة رسم  خرائط المنطقة، على نحو يضمن أمنهما ومصالحهما الاقتصادية، ويقوّي شركاءهما وحلفاءهما الإقليميين، ويُفشل أيَّ محاولات مقابِلة لتشكيل تحالفات تكون محورَها طهرانُ.وطبيعي جداً، أن طرحاً من هذا القبيل، يُحاكي،بصورة أو بأخرى، أطروحات صادرة عن "تل ابيب"، ويثير حفيظة أطراف وقوى إقليمية ودولية، ولاسيما في ظل الاصطفافات والمحاور والاستقطابات الحالية والحادّة بشأن ملفات المنطقة وأزماتها المتشابكة والعويصة.

 وارتباطاً بذلك، فإن هناك مَن يرى أن مثل هذا التحالف، يمكن أن يكون بمثابة بوابة لجَرّ العراق إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، وخصوصاً أن القاهرة وعمّان سارتا في طريق التطبيع مع "تل أبيب" منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن، وسبقتا الجميع في ذلك. ولعل هذا ما يفسر ارتياح واشنطن وترحيبها بالخُطُوات والمبادرات العراقية نحو مصر والأردن، على العكس تماماً من موقفها حيال أيّ تقارب عراقي مع طهران أو دمشق أو موسكو أو بكين.  

 هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنّ التجاربالإجمالية للتحالفات والتكتلات العربية، إمّا وصلت إلى طريق مسدود، مثلما حدث مع الاتحاد المغاربي العربي، الذي تأسّس في شباط/فبراير من عام 1989 في العاصمة المغربية الرباط، أو مجلس التعاون العربي، الذي تأسس في الوقتنفسه تقريباً في بغداد، بمبادرة من رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين، كردّ ضمنيّ على رفض دول مجلس التعاون الخليجي انضمامَالعراق إلى المجلس، وإمّا أن تلك التحالفات والتكتلات بقيت تراوح مكانها، ولم تُفلح في تذويب الخلافات والتقاطعات وإنهاء الصراعات بين أعضائها.

وهذا يصدق على مجلس التعاون الخليجي أكثر من أي تكتل آخر. وأزمات الأعوام القليلة الماضية بين الدوحة من جهة، والرياض وأبو ظبي والمنامة من جهة أخرى، خير شاهد ودليل على ذلك.   

 لا شكّ في أن النظرة الواقعية، تقوم على أن أيّ تحرك عراقي نحو المحيط الإقليمي والفضاء الدولي، من شأنه أن يساهم في تحقيق مكاسب ملموسة للبلد، ويساعد على ذلك. لكن، يُفترض قبل كل شيء، الابتعاد عن المحاور والأطر والاصطفافات الضيِّقة، وأن يتمّ التركيز، بدرجة أكبر، على الأطراف التي لديها من الوسائل والأدوات والإمكانات، ما يمكن أن ينتفع به العراق، ويحافظ في الوقت ذاته على أمنه القومي، وعدم تجاهل مجمل الظروف والأوضاع الإقليمية، وحقائق الواقع ومعطياته الراهنة، وآفاقه المستقبلية، في مَدَيَيْها المتوسط والبعيد، بعيداًعن الانشغال بالاستعراضات السياسية والإعلامية غير المُجْدية، والركون إلى التقديرات السطحية الخاطئة.