لماذا يجب أن نستمع إلى إسحاق بريك؟

زرعت "إسرائيل" في عقل جمهورها هاجسَ الحرب المقبلة مع لبنان، وحفرت في وعيه خطورة حزب الله قبل أن يطلق الأخير أي رصاصة.

  • ليس بريك شخصاً عادياً في الكيان، والأهم هو أن كلامه لا ينطلق من مزايَدات هدفها تسجيل النقاط في مرمى الخصوم.
    ليس بريك شخصاً عادياً في الكيان، والأهم هو أن كلامه لا ينطلق من مزايَدات هدفها تسجيل النقاط في مرمى الخصوم.

مَن يَقرَأْ مقال إسحاق بريك، المنشور في صحيفة "هآرتس"، يُخيّلْ إليه، للوهلة الأولى، أنه يقرأ استنتاجات قائد في محور المقاومة. لم تكن هذه المرة الأولى التي يدقّ فيها بريك ناقوس الخطر. مفوَّض شكاوى الجنود سابقاً في جيش الاحتلال، حاول مراراً إيقاظ دوائر صنع القرار في كيانه من سُباتها العميق. خلاصة ما يقوله بريك، وهو لواء احتياط وقائد للكليات العسكرية وقائد فيلق سابق، هي أن "إسرائيل" معرَّضة للزوال في أيّ حرب مقبلة ضد محور المقاومة. للأمانة، هو لم يستخدم هذا التعبير بصورة مباشِرة، لكنه قال حرفياً إنه في حال لم يتمَّ تدارك الأمر بسرعة، وَفق التوصيات التي أدلى بها في مقاله، "فمن المتوقَّع كارثةٌ ستُسجِّل وصمة عارٍ إلى الأبد؛ حربٌ ستسبب تهديداً لوجودنا وحياتنا في دولة إسرائيل".

ليس بريك شخصاً عادياً في الكيان، والأهم هو أن كلامه لا ينطلق من مزايَدات هدفها تسجيل النقاط في مرمى الخصوم، في الساحة الإسرائيلية. هو، بهذا المعنى، خارج اللعبة السياسية، وخارج حلبة الملاكمة التي أدمى فيها الإسرائيليون بعضَهم بعضاً، من دون خروج رابح واحد حتى الآن.

يكتسب كلام بريك صدقيته انطلاقاً، لا من تجربته العسكرية فحسب، بل من منصبه كمفوَّض لشكاوى العسكريين، الأمر الذي يجعله محيطاً بتفاصيل دقيقة، ومُلِمّاً بعيوب تعتري جيش الاحتلال، خصوصاً على ضوء تصريحاته السابقة أن كبار الضباط كانوا يشكون إليه بطريقة غير رسمية بعد تقاعده، وبعيداً من الأضواء.

يبني بريك استنتاجاته على قاعدة المعطيات والوقائع وموازين القوى التي حكمت معركة "سيف القدس". في خلاصة ما يقول، أنه لم يعد في الإمكان الاعتماد على سلاح الجو وحده في حسم المعارك، وأن وضع القوات البرية الإسرائيلية تَدَهْوَر، و"الآن يقف على شفا هاوية"، وأن تداعيات الجولة الأخيرة "مصيرية". هذه المصيرية تنبع على ما يبدو من كلامه أن "الإيرانيين وحزب الله تابعوا عن كثب ما جرى، وفهموا أكثر أن ليس لدى إسرائيل استجابة للصواريخ".

ذلك يعني أنه، بالإضافة إلى فشل الطائرات الحربية في إيقاف الصواريخ، وفي إحداث تحوّلات نوعية في سَيْر المعارك، هناك فشل إضافي لـ"القبّة الحديدية"، التي ستقف عاجزة أمام أمطار من الصواريخ "الدقيقة"، والطائرات المسيَّرة الانتحارية، وصواريخ كروز الجوّالة، والتي يزن الرأس الحربي لبعضها مئات الكيلوغرامات. 

هذا السيناريو الواقعيّ، الذي يتهدَّد "إسرائيل" في أيّ حرب على جبهات متعدِّدة، توازيه حقيقة يَعْرِضها بريك، ومفادها أنه ليس لدى "إسرائيل" مخزونٌ كافٍ من الصواريخ المضادَّة لصواريخ المقاومة، التي في مقدورها القتال لأشهر، بحسب تقديره، مع ترسانة كبيرة ونوعية تضمّ 250 ألف صاروخ. 

لطالما تباهى قادة العدو بنظام "القبّة الحديدية"، ووجدوا فيه حلاً سحرياً لمعضلة الصواريخ، ودليلاً على تفوّق العقل الإسرائيلي. تُضاف "القبّة الحديدية" إلى "مقلاع داوود" و"العصا السحرية"، للتصدّي لصواريخ محور المقاومة، على ارتفاعات وفي مديات متعددة. فشلُ هذه المنظومة يعادل سقوط المظلّة التي تحمي "إسرائيل" من زخّات الصواريخ، التي تطوّرت ونمت وباتت ناضجة للحظة المؤاتية. من دون هذه المظلّة، تصبح "إسرائيل" عارية.

في أيلول/ سبتمبر 2018، قال السيد حسن نصرالله "لقد انتهى الأمر وأُنجز الأمر". في حزيران/يونيو 2020، نشر الإعلام الحربي للمقاومة، على خلفية هذا المقطع الصوتيّ، رسالة إلى الإسرائيليين تتضمَّن مشاهد عن إحداثيات لمواقع مهمة في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة.

في إمكان بريك، وفق هذه الوقائع، أن يقدِّر بصورة أكثر وضوحاً، وفي إمكان قادة العدو أن يُضيفوا تصورات أُخرى ومفاجآت لم تَتَراءَ لهم.

في ظلِّ هذه المعطيات، يُستَبْعَد أن تطول الحرب المقبلة أسابيعَ، كما كان يحدث سابقاً، وخصوصاً إذا شُلَّت المراكز الحيوية الإسرائيلية، العسكرية منها والاقتصادية، بالصواريخ الدقيقة والطائرات المسيَّرة، ولم يعد أقوى سلاح جوّ في المنطقة يجد قواعد عسكرية صالحة ليعود إليها.

خلاصات بريك تتعاضَد مع خلاصات مشابهة لعشرات المعلِّقين والمحلِّلين والكُتّاب الاسرائيليين. في يوم واحد فقط (الجمعة 28 أيار/مايو) تنشر "هآرتس" خلاصات بريك، وتقول "معاريف"، في أحد مقالاتها، إنه يجدر بجيش الاحتلال "التفكير في كيفية ترجمة عِبَر القتال المُرَفَّه (أو الديلوكس) هذا إلى مواجهة أصعب كثيراً في الشمال". كما تتحدَّث الصحيفة، في مقال آخر، عن "مَصاعب الجبهة الداخلية الإسرائيلية في الحرب المقبلة"، بينما تنشر "إسرائيل هيوم" أن "القبّة الحديدية لن تكفي" في الحرب المقبلة مع لبنان، وأن "سلاح الجوّ سيكون تحت هجمات صاروخية في كل قواعده، وستنضمّ حماس وسوريا إلى المعركة". قبلها بيوم، تُشعل "يديعوت أحرونوت" الضوء الأحمر تحت عنوان: "استعدّوا للسيناريو الأخطر في الشمال"، وتذكر أن "حركة حماس لا تمتلك عُشر ما يمتلكه حزب الله من قُدُرات".

هذه المقالات تنضمّ إلى مئات المقالات والمقابلات والآراء الأُخرى، والتي عرضتها وسائل الإعلام العبري بشكل مكثّف ومتواصل، وتَشَرَبَّها الجمهور الإسرائيلي حتى الثمالة، خلال الأسبوعين الفائتين.

أدخلت "إسرائيل" بذلك هدفاً في مرماها، لن يكون من السهل تعويضه. لقد زرعت في عقول الإسرائيليين هاجسَ الحرب المقبلة في جبهتهم الشمالية، وعزّزت كَي الوعي لديهم بنفسها من دون جهد أو تدّخل من حزب الله، وساهمت في بثّ الخوف على مصيرهم. 

أطلقت "إسرائيل" النار على رِجْلها في إطار الحرب النفسية، وقبل أن يطلق حزب الله رصاصة واحدة. عندما يختبر الصهاينة غداً انقطاع الكهرباء الشامل سوف يتحسسون في العتمة أشدّ مخاوفهم عمقاً، قبل حتى أن يلتقوا "وحدات الرضوان" وأعلام المقاومة على التلال.

 لقد ترسَّخ في وعي الصهاينة اقتدارُ حزب الله، واقتنعوا، بفضل إعلامهم ورغم الرقابة، أن معركة "سيف القدس" ليست سوى "بروفة" لما ينتظرهم، أو كما سمّاها الإعلام الإسرائيلي "رأس جبل الجليد" مقارنة بأيّ مواجهة مع حزب الله.

 

اعتداءات إسرائيلية متكررة على الفلسطينيين في القدس المحتلة ومحاولة تهجيرهم من منازلهم، استدعت انتفاضة فلسطينية عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبعها عدوان إسرائيلي على غزة تجابهه المقاومة بالصواريخ التي تشل كيان الاحتلال.