التحوّر ولقاح كورونا.. هل من جرعة ثالثة؟
التحوّر المشترك بين السلالات المتغيّرة أدى إلى أن يحصل كل المعافين من الأمراض المسببة لإحدى هذه السلالات المتحورة على جسم مضاد مشترك فعّال، ولو جزئياً، ضد جميع هذه المُسببات.
لا تحمل جميع الطفرات الفيروسية التي تحدث غالباً عند نسخ التركيب الجيني الفعالية والأهمية نفسها. ما يهمنا هنا هو الطفرة التي تؤدي إلى تغيرات أساسية وحيوية في الفيروس، مثل سرعة انتشاره أو التغيّر في ضراوته.
عدد الطفرات الأساسية التي حصلت للسلالة المتحورة التي اكتشفت في جنوب أفريقيا، والتي تُدعى "220 H /501Y.V"، هو 23 طفرة، ما أدى إلى تغيرات مختلفة ومهمة في تسلسل الحمض النووي للفيروس. وقد حصلت 9 منها في جزء الـ"RNA" الذي يؤدي إلى إنتاج بروتين "سبايك"، إذ تم استبدال أو حذف حامض أميني واحد أو عدّة أحماض أمينية، مثلما حصل في المنطقة النهائية لهذا البروتين "N-terminal region"، وتحديداً في الأماكن "N1 ; N3 ; N5" لهذه المنطقة.
وهناك تغيرات أخرى حدثت أيضاً في بروتين "سبايك" في مركز الربط الذي يُسمى "RBD". وقد أدّت إلى حدوث المتغيّرات "K417N ; E484K ; N501Y" في هذا المركز الذي يرتبط بمنطقة الاستقبال البروتيني "ACE 2" للخلية البشرية. لهذا، لم يعد مركز الارتباط "RBD" يتأثر تماماً بالأجسام الحيوية المضادة، لتمنعه من دخول الخلايا البشرية والانتشار السريع فيها.
مؤخّراً، أوضحت الدكتورة الأميركيّة ماريا فان كيركوف، باعتبارها المسؤولة الطبية لدراسة "كوفيد - 19" في منظمة الصحة العالمية، أن هناك تشابهاً بين السلالة المتحورة البريطانية "201/501.Y.V1" والسلالة المتحورة لجنوب أفريقيا "2 20 H/501 Y.V"، إذ إنهما يحتويان على التحور "N501Y"، ما يزيد من سرعة انتشارهما.
وقد تبيَّن لاحقاً أنَّ السلالة المتحورة التي اكتشفت في البرازيل "20 J/501 Y.V3" وسلالات متحورة أخرى، تحتوي أيضاً على التحور "N501Y"، إلا أنَّ الدكتور توليو دي أوليفيرا، الباحث في مختبر "كريسب" في جنوب أفريقيا، بيَّن أن السلالة الأفريقية "2 20 H/501 Y.V" أكثر ضرراً من غيرها من المتغيرات الفيروسية المسببة لفيروس كورونا، والتي اكتشفت حتى الآن.
وقد بيَّنت المجلّة العلمية "نيتشر" في عددها الذي نُشر في 8 آذار/مارس 2021، أن وجود التحوّر "E484K"، الذي يقلّل فعالية المناعة لدى المصاب بسلالة جنوب أفريقيا، سيقلّل أيضاً بأضعاف فعالية الأجسام المضادة الناتجة من بعض اللقاحات.
من ناحية أخرى، يوجد ما لا يقل عن 15 تحوراً في التركيب الجيني للسلالة الهندية المتحورة التي تُسمى ".1.617B"، والمعروفة بسرعة انتشارها. وقد بيَّنت الدراسات الأوليَّة أنَّ اللقاحات المبنيّة على الـ"RNA" تحدّ من شدة الوباء الناتج من هذه السلالة الهندية المتحورة، من دون أن تُؤدي العدوى إلى تفاقم الأعراض الجانبية أو إلى الوفاة.
وفي هذا السياق، أشار آخر الدراسات، بحسب تقرير الصحة البريطانية "public Health England"، إلى أنَّ لقاح "فايزر" يحمي من الإصابة بهذه السلالة الهندية المتحورة بنسبة 80% تقريباً، بينما يحمي لقاح "أسترازينيكا" منها بما يقارب 60%، ولكن، في الوقت الراهن، أعلنت الدكتورة سمية سواميناثانين أن الهند لم تعد قادرة على السيطرة على هذه الجائحة، لعدة أسباب، منها صعوبة التحور الفيروسي المسبب لانتشارها بشكل سريع. ومن المؤكد أنّ هناك أسباباً اجتماعية أخرى، كما سنرى لاحقاً، تتلخّص بعدم الوقاية من مسبّبات العدوى.
إنَّ تفاقم الجائحة في الهند جعل بلدان العالم الغربي تسارع إلى مساعدته لمكافحة الجائحة، والحؤول دون وصول المسبب الفيروسي المتحور والسريع الانتشار إلى البلدان الأوروبية وبلدان أميركا الشمالية. ومن المؤكد أن هذا الفيروس، إذا استمرّ في الانتشار والتكاثر بهذه السرعة، سيؤدي إلى ظهور سلالات متحورة أخرى، ربما ستكون أسرع انتشاراً وأشدّ ضرراً.
والجدير بالذكر أنّ التحوّر المشترك بين هذه السلالات المتغيّرة أدى إلى أن يحصل كل المعافين من الأمراض المسببة لإحدى هذه السلالات المتحورة على جسم مضاد مشترك فعّال، ولو جزئياً، ضد جميع هذه المُسببات.
وفي هذا السياق، يقول عالم الإحصاء الطبي البلجيكي، توم وينسبير، إن سرعة انتشار البديل الإنجليزي في بلجيكيا، وإنتاج المصابين للأجسام المضادة الفعّالة، أدّيا إلى عدم انتشار النسخة المتحورة "الجنوب أفريقية" الأكثر فتكاً والأسرع انتشاراً.
وللعلم فقط، إنّ الأجسام المضادة التي وُجدت لدى من أُصيبوا بالفيروس المتحور الذي اكتشف في "جنوب أفريقيا" وتعافوا منه، تحمي الإنسان من جميع السلالات المتحورة الأخرى، ما يدلّ على أنّ من الضروري الاستعانة بهذه السلالة الأفريقية المتحورة لتغيير التركيبة اللقاحية لدى شركات صُناع اللقاحات.
وقد باشرت هذه الشركات منذ زمن بصناعة اللقاح المعدل، ربما لكي تُعطى منه جرعة ثالثة لكبار السن وذوي الأمراض المزمنة وكل أفراد المجتمع، قبل تلاشي فعالية اللقاحات التي أُعطيت سابقاً. وستُعطى هذه الجرعة الثالثة أيضاً إذا استمرّ خطر العدوى المحلي أو العالمي. وعلينا الأخذ بعين الاعتبار أنَّ فعالية اللقاحات التي أُعطيت حتى الآن ستنخفض إلى النصف، اعتباراً من نهاية الشهر السادس لتلقيها.
أودّ أن أذكّر أن اللقاحات لا تؤدي فقط إلى إنتاج الاجسام المضادة التي تنتجها المناعة بكمية وفعالية مختلفة من شخص إلى آخر، وبحسب نوعية اللقاح، بل توفر أيضاً مناعة الخلايا اللمفاوية التائية التي تؤدي دوراً أساسياً في القضاء على الفيروس.
إن عدم انتشار الفيروس، الذي يؤدي بدوره إلى تقليص حدوث التحور الفيروسي، لا يتم من خلال تلقي اللقاحات والمساهمة في إنشاء الحائط المناعي أو ما يسمى "مناعة القطيع" فحسب، بل أيضاً بالالتزام بالقواعد الأساسية والبديهية لعدم انتشار الفيروس، كغسل الأيدي وتعقيمها باستمرار، والمحافظة على التباعد الاجتماعي، وتهوئة المنازل، والابتعاد عن الأماكن المزدحمة، والالتزام بوضع الكمامات، حتى بعد أخذ اللقاح.
كما ذكرت أعلاه، إن فعالية المناعة تختلف من شخص إلى آخر. وكما كتبت في مقال سابق، إنَّ الحمل الفيروسي يمكن أن يتضاعف عشرات المرّات عند بعض الأشخاص، من دون ظهور أعراض جانبية معتبرة؛ فلو تعرض أحدنا لكمية كبيرة من الفيروسات، ولم تستطع مناعته الطبيعية أو المكتسبة القضاء عليها في مدة معقولة، فإنه قد يعدي الآخرين.
لهذا، علينا جميعاً تطبيق قواعد العزل والحجر الصحي وإجراء الفحوصات اللازمة، مثل "PCR" أو غيرها من الفحوصات، وربما أخذ الجرعة الثالثة، إذا تطلب الأمر، إلى أن نتغلَّب نهائياً، وفي كل مكان، على هذه الجائحة اللعينة.