عندما يتوقّف الزمن السياسي عند النخب السياسية الأميركية

ألا يمكن القول إنَّ أميركا فوّتت على نفسها فرصة تاريخية لكسب احترام العالم لها وتقبلها كمتزعمة له لمدة أطول، وإن تعددت أقطابه؟

  • عدم إقرار أميركا بفشل استراتيجياتها جعلها تعيد تكرار أخطائها
    عدم إقرار أميركا بفشل استراتيجياتها جعلها تعيد تكرار أخطائها

في إطار تتبّع السياسة الخارجية الأميركية، يمكن رصد 3 أخطاء استراتيجية أدت، بما لا يدع مجالاً للشك، إلى احتدام الصراع الدولي الحالي، وجعل أميركا تحصد خيبات متتالية في ملفات دولية كثيرة افتعلتها، من خلال ما اعتمدته من سياسات خارجية للهيمنة استنزفتها داخلياً وخارجياً، وأدت إلى تراجع وضعها الاعتباري في الساحة الدولية، في مقابل تعاظم قدرة وقوة من اعتبرتهم أعداء لها، وهو ما يثبت فشل الاستراتيجية الأميركية في تحقيق الأهداف التي توختها من سياسة الهيمنة هذه، رغم كونها أدت إلى تدمير دول وفاقمت مأسي الكثير من الشعوب.

هذه الاستراتيجية الأميركية المزهوة بنشوة الانتصار على المعسكر الاشتراكي، ورغم أنها حققت بعض الأهداف المرحلية المرضية للوبيات المال والأعمال، لم تحظَ باحترام المجتمع الدولي، ولم يتم القبول بتزعّمها العالم. بخلاف ذلك، ارتفع منسوب فقدان الثقة بالولايات المتحدة، وحفزت الكثير من الدول على اعتماد استراتيجيات إنمائية وعسكرية، تحسباً لأي تهور أميركي عدائي قد يهدد وجودها.

عدم إقرار أميركا بفشل استراتيجياتها جعلها تعيد تكرار أخطائها، بدلاً من تصحيح مسار علاقاتها الدولية، بما يحفظ مكانتها الدولية ويرفع منسوب الثقة بها كدولة تساهم في توطيد السلم والأمن الدوليين، عبر اعتماد منهجية تشاركية تراعي المصالح المشتركة للشعوب، بديلاً لمنهجية الهيمنة التي تؤجج الصراعات الدولية.

ميثاق الأمن القومي الجديد، بإغفاله التحولات التي طرأت على مستوى موازين القوى العالمية، وتجاهل الواقع الداخلي الأميركي وما يتسم به من أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة تعرّي زيف قيم الديمقراطية الأميركية التي فقدت جاذبيتها عند الأصدقاء قبل الأعداء، يؤكّد استمرار أميركا في الاعتقاد الواهم بأنَّها الطرف الوحيد الذي يجب أن يحدد معالم النظام الدولي، وأن نموذجها الديمقراطي الذي فشل داخلياً في بناء مجتمع تسوده قيم المواطنة والعدالة والمساواة ما زال صالحاً للتسويق بالوسائل الدبلوماسية الناعمة - بحسب ما ورد في الميثاق ذاته - والذي صيغ وكأن الزمن السياسي توقَّف عند مرحلة بداية تفكّك الاتحاد السوفياتي، عندما كانت أميركا القوة الآمرة والناهية في العالم. وتبعاً لذلك، يمكن رصد الأخطاء الجيوستراتيجية الأميركية في المحاور التالية:

شرق أوروبا وروسيا

الخطأ الاستراتيجيّ الذي انتهجته أميركا في هذه المنطقة بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي وتحول روسيا إلى نظام سياسي ليبرالي، يتمثل في عدم تحويل هذا الحدث المهم إلى فرصة لمد يد العون لإعادة بناء اقتصادها المنهار بالشكل الذي اعتمدته مع أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وطمأنة الساسة الجدد في روسيا، ورفع منسوب الامتنان والثقة لديهم بالنموذج الغربي، لكنها عملت بدلاً من ذلك على إذلال روسيا وقياداتها السياسية من خلال: 

-  تخريب الاقتصاد الروسيّ بزرع رجال أعمال فاسدين احتكروا الثروة والسلطة.

-  التنكّر لوعودها بعدم توسيع الحلف الأطلسي شرقاً حتى الحدود الروسية.

-  محاولات تفكيك الدولة الروسية، من خلال تشجيع الحركات الانفصالية والصراعات العرقية والدينية.

كل هذا عكس رغبة دفينة للانتقام من مرحلة شكّلت عقدة تاريخية للعقل السياسي الأوروبي-الأميركي منذ عهد روسيا القيصرية إلى حدود روسيا السوفياتية.

هذه السياسة التدميرية التي انتهجتها أميركا تجاه روسيا هي التي أحيت النوستالجيا الروسية التي كانت بأمس الحاجة إلى قيادة سياسية منقذة تعيد أمجاد البلاد كقوة فاعلة في المنتظم الدولي، وهي التي دفعتها إلى استعادة عافيتها الاقتصادية وقوتها العسكرية الرادعة والهجومية، لتقف مجدداً موقف الندّ لأميركا والغرب الذي انفضحت شعاراته التي كان يوهم بها الشعب الروسي حول الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ودفع روسيا إلى التوجه شرقاً عبر استراتيجية سياسية قائمة على مبدأ الشراكة مع حلفاء جدد وجدوا أنفسهم في مرمى التهديدات الأميركية أيضاً.

الصّين وشرق آسيا

انشغال أميركا بروسيا والشرق الأوروبي والشرق الأوسط خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي، وإغفال هؤلاء نسبياً الصين الّتي اعتبروها مهدّدة بالسقوط وغير قادرة على مواجهة موجة التغيير التي أحدثتها الثورات الملونة شرق أوروبا، وفي ساحة "تيان مين" المدعومة أميركياً في العام 1989، من دون أن ينتبهوا إلى أهمية الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي انتهجتها الصين مع دينغ ساوبينغ في العام 1979، وقدرتها على التحوّل نحو اقتصاد السوق ضمن النظام السياسي نفسه.

كل ذلك تم في إطار عملية استباقية لم تكن في حسبان أميركا، حفزها في ذلك الدور التخريبي للغرب في جمهوريات الاتحاد السوفياتي والاتحاد الروسي لاحقاً، وكذلك داخل بعض المناطق الصينيّة، ما دفع الصين إلى اعتماد استراتيجية تنموية اجتماعية انعكست إيجاباً على المواطن الصّيني، مع اعتماد سياسة خارجيّة مهادنة مع الغرب، تجلّت في ارتفاع معدلات النموّ التي تراوحت بين 8 و12%، ما أهَّل الاقتصاد الصيني للمنافسة على المراتب الأولى عالمياً.

كما تم عقد تحالفات استراتيجية مع الدول المتضررة من سياسات أميركا في الهيمنة، وخصوصاً مع روسيا كقوة عسكرية عالمية، وإيران كقوة إقليمية صاعدة، ودول أخرى ضمن مجموعة "البريكس".

الشّرق الأوسط

صحيح أنَّ استراتيجية الأمن القومي الجديدة لم تجعل الشّرق الأوسط أولويّة، لكنها أكَّدت أمن الحليف الإسرائيلي، كما أكدت أن إيران مصدر تهديد لها وللمنطقة ويجب ضبطها، معتبرة تواجدها العسكري في الشرق الأوسط للضرورة فقط، مع اعتماد الدبلوماسية لحل نزاعات المنطقة ونشر قيم الديمقراطية الأميركية، لكن هل ستنجح هذه الاستراتيجية فعلاً في منطقة تكثّف الصراع الدولي بمحاوره المتصادمة، في سبيل التفرغ للتهديد الرئيسي الذي تمثله كلّ من الصين وروسيا؟

 أميركا هي التي افتعلت الصراعات في المنطقة للانتقام ممن كانوا مناهضين لهيمنتها وأصدقاء للاتحاد السوفياتي وروسيا لاحقاً، وذلك من أجل التحكم بمصادر الطاقة ومحاصرة الأخيرة عبر حدودها الجنوبية، ومنعها من الوصول إلى المياه الدافئة بعد أن حاصرتها غرباً، وكذا قطع الطريق على المشروع الصيني لإحياء طريق الحرير، باختلاق تنظيم "القاعدة" في أفغانستان، لتحتلها لاحقاً بعد العمليات الإرهابية في 11 أيلول/سبتمبر 2001، وبعد أن حاصرت العراق لسنوات قبل أن تحتله في العام 2003 وتدمر مؤسساته ونسيجه الاجتماعي والطائفي والأمني، مع اتباع سياسة العقوبات الصارمة تجاه إيران منذ الثورة الإيرانية، وبعد ذلك سوريا، من خلال حرب ظالمة أريد منها تدمير الدولة وتغيير نظام الحكم، بالتدخل المباشر أو باعتماد الحرب بالوكالة التي جندت فيها تنظيم "داعش" والجماعات الإخوانية المتطرفة بكثافة، إضافة إلى اليمن الذي تخوض فيه السعودية وحلفاؤها من دول الخليج بدعم أميركي غربي حرباً مدمرة.

كلّ هذا بذريعة ظاهرة عنوانها مواجهة ما سمي "المد الإيراني"، في الوقت الذي نعلم أنّ هذه الدول، وخصوصاً العراق، هي الدول الإقليمية الوحيدة المحسوبة على الصف العربي والقادرة على خلق توازن للقوى في المنطقة، نظراً إلى ما كانت تمتلكه من قدرات علمية وإمكانيات اقتصادية وبشرية، لكن عملية التدمير الممنهجة لمؤسساتها ونسيجها الاجتماعي هي ما فتح الباب لمختلف التدخلات الخارجية.

وبذلك، تكون أميركا بسياساتها الخاطئة هي التي دفعت العراق بأغلبيته الشيعية وأقليته السنية الرافضة للهيمنة وللاحتلال الأميركي إلى أن ينخرط في محور المقاومة إلى جانب كل المتضررين من سياسات الهيمنة المجحفة في كل من سوريا وفلسطين ولبنان واليمن، وهو المحور الّذي استفاد أكثر من حال توازن القوى على المستوى الدولي، والّذي فرضته حالياً كل من الصين وروسيا الداعمتين له، وذلك في إعلان صريح عن فشل السياسات الأميركية في المنطقة.

ارتكبت الولايات المتحدة أخطاء جيوستراتيجية بعد نهاية الحرب الباردة وتحول العالم إلى الاقتصاد الحر، مع وجود فرصة لقيام عالم جديد أكثر عدلاً وأمناً، باعتماد سياسة قائمة على إعمال مبدأ التعاون والأمن الدوليين، وكذا تقديم المساعدة للدول المتضررة من هذه التحولات لإعادة تأهيلها اقتصادياً وسياسياً، بدلاً من اعتبار هذه التحولات فرصة للانتقام من ماضي هذه الدول، وبالتالي فرض المزيد من الضغوطات عليها من أجل إخضاعها، وكذا العمل على حل النزاعات المترتبة على مرحلة الحرب الباردة في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وبقية العالم، بما يخدم المصالح المشتركة للشعوب ويحفظ أمنها واستقرارها.

في المحصّلة النهائية، ألا يمكن القول إنَّ أميركا فوّتت على نفسها فرصة تاريخية لكسب احترام العالم لها وتقبلها كمتزعمة له لمدة أطول، وإن تعددت أقطابه؟ ألا يمكن القول إن هذه الاستراتيجيات الخاطئة هي التي ستعجل بسقوطها لصالح قوى عالمية جديدة تعتمد في استراتيجيتها مبدأ الشراكة والمصالح المتبادلة والتعاون الدولي في مواجهة الكوارث والأوبئة، كما ظهر جلياً في تعاملها مع وباء كورونا، الذي اعتمدت فيه كلّ من الصين وروسيا مبدأ حقّ الطبابة للجميع، والذي عكسه عدد الدّول الموقّعة معهما للحصول على اللقاح المضاد لكورونا، والذي تجاوز مئة دولة في العالم، بما فيها دول محسوبة على أوروبا الغربية، في الوقت الذي اعتبرته أميركا والغرب مجالاً للربح والابتزاز السياسي على حساب مآسي الشعوب الفقيرة!

ألا يمكن القول أيضاً إنَّ هذه الوضعية (المأزق) ستزيد من قوة الأحلاف المناهضة لأميركا عالمياً وإقليمياً ومناطقياً، وإن ما صدر عنها ينم عن سوء تقدير للتحولات الدولية بما تعرفه من تكتلات عالمية جديدة ما فتئت تنمو وتتوسع في مقابل الاستنزاف المطرد للقدرات الاقتصادية الأميركية، ما سينعكس سلباً على موقعها الدولي وعلى وضعها الداخلي الهش المتفجر بأزماته التي تؤشر إلى قرب أفول عصر الإمبراطورية الأميركية التي تشكّلت مع نهاية الحرب العالمية الثانية؟