أنيس النقاش: المقاوم الأوّل والاستشرافيّ الأوّل والمفكّر الأول

أهمية فكرة الأخ أنيس تكمن في أنَّها تمثل الوصفة شبه الوحيدة للخروج من هيمنة الفكر الرأسمالي الاستعماري الغربي ومشاريعه التفتيتية للمنطقة.

  • كانت قراءة متعمّقة واستشرافية للخروج من الهويات القوميّة والدينيّة التي مزّقت المنطقة
    كانت قراءة متعمّقة واستشرافية للخروج من الهويات القوميّة والدينيّة التي مزّقت المنطقة

عندما أصدر الصّديق أنيس النقاش كتابه "الكونفدرالية المشرقية"، ناقشته واختلفت معه، انطلاقاً من عصبوية قوميّة تربّيت عليها وتأصّلت في داخلي على مدى ما يزيد على نصف قرن. وحين استمعت إليه عندما كان ضيفاً على شاشة الميادين، وأنصتّ بعناية إلى شروحاته وتبريراته التي ساقها وأحسن الدفاع عنها لحلّ المآزق التي تتخبّط بها المنطقة، استشرفت الدقّة والموضوعية في القراءة التي قدَّمها بجدارة.

كانت قراءة متعمّقة واستشرافية للخروج من الهويات القوميّة والدينيّة التي مزّقت المنطقة وأضاعت بوصلتها على مدى قرن من الزمن. تكمن أهميّة ما قدّمه أنيس النقاش في أنّ فكرته تقوم على التحرر والخروج من التبعية التي غرقنا فيها منذ نهاية الاستعمار العثماني مطلع القرن العشرين، وبأننا ما زلنا نسير على غير هدى (باستثناء حقبة عبد الناصر التي جهد الاستعمار لإسقاطها).

أهمية فكرة الأخ أنيس تكمن في أنَّها تمثل الوصفة شبه الوحيدة للخروج من هيمنة الفكر الرأسمالي الاستعماري الغربي ومشاريعه التفتيتية للمنطقة، لسرقة الثروات من جهة، والقضاء على كل عوامل التنمية المجتمعية والتكامل الاقتصادي من جهة أخرى، والتحكّم بالموقعين الجيوسياسي والجيواستراتيجي من جهة ثالثة، وهو ما حاول أوباما فعله عندما أراد الخروج من المنطقة للاتجاه شرقاً نحو الصين وتلزيم المشرق لإردوغان، من خلال الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) وبعث العثمانية الجديدة.

كم كانت رؤية أنيس واستشرافه صائبين عندما قرأ أنَّ الحلّ يكمن في الخروج من الهويات القومية والدينية - الطائفية والإثنية التي شكّلت عاملاً مساعداً في تفتيت المنطقة، بسبب الصراعات التي خاضتها منذ قرن من الزمن، وما تزال، واكتشافه أنَّ صراع الهويات، على تنوّعها، ما هو إلا الوصفة السحرية لتفتيت المنطقة، واستطراداً لخدمة المشروع الاستعماري، سواء بوعي أو من غير وعي، وأنَّ هذا المسار، إذا ما استمر، يقطع الأمل بالتكامل الاقتصادي والمصلحي الذي تحتاجه المنطقة لتلبي مقتضيات تحررها ونموها!

مما لا شكّ فيه أنَّ تجربة الاتحاد الأوروبي التي ربما نظر إليها أنيس، رغم تناقضاتها القومية والثقافية واللغوية، ورغم الحروب الدينيّة، كانت ماثلة في ذهنه خلال قراءته واقع المنطقة، وعندما ذهب إلى مقاربته تلك نحو الكونفدرالية المشرقية، وبأنّها كانت تجربة مثاليّة في تجاوزها العوائق وإنتاج وحدتها الاقتصاديّة التي حكمتها وحدة المصالح لا الهويات، رغم التناقضات الموجودة بينها.

إنّ توحّد المشرق بتلاوينه الدينية والقومية ضمن نظام كونفدرالي يوفّر مجموعة مصالح مشتركة، منها التحرّر من هيمنة الغرب أولاً، وتوفير الحرية السياسية والتكامل الاقتصادي ثانياً، والخلاص من التبعية والاستلاب لصالح هيمنة الكيان الإسرائيلي ثالثاً.

ليس عبثاً أن ينظر أنيس بريبة وحذر كبيرين إلى نظرية المفكّر الصهيوني برنارد لويس، الذي كان يطرح إعادة النظر في الجغرافيا المشرقية، كما يطرح إعادة تقسيمها على أسس عرقية ودينية ومذهبية، بما يخدم الكيان الإسرائيلي، وخلافاً لما ذهب إليه أوباما، وكان همّه إعادة تفتيت المنطقة بما يخدم إمكانيات الهيمنة الإسرائيلية في ما لو قرّرت الولايات المتّحدة مغادرة المنطقة والتوجه شرقاً، وكذلك كانت رؤيته لمخاطر رؤية صمويل هنتنغتون في صراع الحضارات واستهدافها لحضارتنا.

وإذا ما أمعنّا النظر في ما طرحه المرحوم أنيس النقاش لمشروع الكونفدرالية المشرقيّة، فإننا نجد أنَّ ثمة تكاملاً جغرافياً ثابتاً لا يغيّره الزمن، وأنّنا محكومون به، فالجغرافيا ثابتة لا تتغيّر، بخلاف التاريخ، والتحرّر الوطني هو حاجة جمعيّة لكامل المنطقة، وتكامل المصالح شرط لحماية الموارد والأمن المجتمعي، وهو أحد ثوابت ضرورات الاستقرار.

تحدّث أنيس عن شروط موضوعية لنظرته التي تضمّنها الكتاب، واصفاً إياها بأنَّها لازمة وحاسمة في مسيرة التحرّر، وبأنَّ تصحيح واقع المشرق يمثّل شرطاً لازماً لتحرير فلسطين، وأنَّ الانتصار على "إسرائيل"، باعتبارها "دولة" معتدية، وممثلة للاستعمار، وخارجة عن النسيج الاجتماعي للمنطقة، وحاملة لمشروع استعماري وتفتيتي للمنطقة، لا يتمّ إلا انطلاقاً من وحدة المشرق، ومن خلال دور محوري لدمشق في هذه المهمّة، وبأن يكون المشرق كلّه حاضناً لهذا الدور المحوري. 

إنَّ الكونفدراليات لعموم الشرق الأوسط، وليس للمشرق فحسب، قد تكون حلاً ومخرجاً لأزماته كلّها. تخيَّلوا معي كونفدراليّة تقودها مصر، على سبيل المثال، وتجمع المصالح الاقتصادية والتنموية لمصر والسودان وعموم المغرب العربي، إضافةً إلى إثيوبيا، وربما الصومال وجيبوتي وغيرهما، وما توفره هذه الكونفدرالية والتشبيك من قوة بسبب الموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر وقناة السويس، وبسبب التكامل الجغرافي من جهة، والثروات التي تمتلكها من جهة ثانية.

سيمكّن ذلك مصر من الخروج الآمن من "كامب ديفيد"، والعودة إلى سياقها التاريخي، وحل معضلة سدّ النهضة مع إثيوبيا، ما ينقذ مصر والسودان معاً، ويعيد الاعتبار إلى مقولة "مصر هبة النيل"، انطلاقاً من المفهوم التنموي. كذلك هو الحال في ما يتعلَّق بنهري دجلة والفرات بالنسبة إلى سوريا والعراق، واللذين تتحكّم بهما تركيا، كما تتحكم إثيوبيا بنهر النيل. 

إنَّ أحد أبرز شروط نجاح هذه التجربة هو سقوط منطق الهويات الدينيّة والقوميّة، واعتماد التكامل في المصالح، والتشبيك السياسي والثقافي والمصلحي بين هذه البلدان، سواء في المشرق أو شمال أفريقيا. ومن بين هذه الشروط، سقوط الوهم التركيّ بعثمانية جديدة تمارس سطوتها على المنطقة، والعمل على إسقاط التّهمة المذهبية الملصقة بإيران، باعتبارها المشتبك الأول في المنطقة مع الإمبريالية، وهو ما يتناقض مع أيّ تسويق مذهبي.

إنَّ كونفدراليّة تجمع بين لبنان وسوريا والأردن والعراق يمكن أن تشكّل لبنة على طريق الكونفدرالية التي تحدَّث عنها أنيس، وقد تشكّل المعطى الموضوعي لها، كما تنقذ المنطقة من صراع الهويات التي مزّقتها، وما تزال، وتشكل الاتجاه إلى وحدة المصالح التي توفر الحرية السياسية والتنمية المجتمعية والتكامل الاقتصادي.