"الملل والنِحَل" وزيارة البابا إلى العراق
يتكوّن العالم اليوم، كما في أي وقت آخر من التاريخ، من عدد كبير من الملل والنِّحل، لكن هذا العدد يزداد تردياً نحو الاقتتال بدلاً من أن يحول ذلك التعدد إلى تعددية، بمعنى تحويل الكثرة إلى فكرة جالبة للتعايش الحضاري المشترك.
هناك قلق كبير يسكن مناطق كثيرة من العالم حيال ما يمكن أن تسفر عنه مرحلة ما بعد وباء كورونا، إن قُدِّر لهذه المرحلة الحرجة أن تمر سريعاً خلال السنة الجارية بعد أن أكلت السنة الماضية بكاملها، فقد جرّب إنسان الألفية الثالثة الشيء الذي لم يجربه إنسان ما قبلها، وهو انتشار وباء متشابه المظاهر والنتائج على الصعيد الكوني، وتقارب أكبر بين البشر في ما يتعلق بطرائق التفكير في وسائل الخروج من الجانب الآخر للنفق نحو الضوء.
يتكوّن العالم اليوم، كما في أي وقت آخر من التاريخ، من عدد كبير من الملل والنِّحل، لكن هذا العدد يزداد تردياً نحو الاقتتال بدلاً من أن يحول ذلك التعدد إلى تعددية، بمعنى تحويل الكثرة إلى فكرة جالبة للتعايش الحضاري المشترك، إذ إن التعددية واقع طبيعي لا علاقة للإنسان به.
أما التعددية، فهي الفلسفة التي تؤمن بحق الجميع في العيش المشترك تحت سقف واحد. إن التعدد برهان على الزحام، ولكن التعددية هي التنظيم العقلاني للكثرة.
انطلق المسلمون في الماضي من هذه المقولة، ففتحوا قنطرة الحوار مع الآخرين، وكانت النتيجة هي ذلك العدد الكبير من المؤلفات التي تدخل ضمن ما نسميه "الملل والنحل"، أي الطوائف وأتباع الديانات والثقافات المختلفة.
كان الغرض من تلك المؤلفات مزدوَجاً: تلقين المسلمين في كل مكان أصول تلك الديانات والثقافات المتباينة، بحيث لا يُعذر أحد بجهلها بعد ذلك، وتمرين العقل الإسلامي على تفهم أتباع تلك الديانات والثقافات على طريق التعايش والتسامح معهم.
وقد انبثقت تلك المهمة المزدوجة من الشعور بأن التسامح مسبوق بالتصور، وأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما يقول المناطقة، وما لم يكن هناك إلمام بما يؤمن به الطرف الآخر، فلن يحصل أي نوع من التعايش والتلاقي، لأن الإنسان "عدو من يجهل"، وكلما ازداد المرء جهلاً بثقافة الطرف الآخر ـ والعكس أيضاً ـ ازدادت مساحة التطرف توسعاً.
شكلت مؤلفات الملل والنحل في تلك الفترات من التاريخ، وخصوصاً في الأندلس، مثالاً نموذجياً سابقاً لبيداغوجيا تدريس الأديان في العصر الحاضر. لم يكن فقهاء القرون الخوالي وعلماؤها يشعرون بأي عقدة نقص تجاه الديانات الأخرى، لسبب بسيط، وهو أن جميع أتباع الديانات كانوا متعايشين من الناحية المجالية في مكان واحد، منشئين بذلك واقعة سوسيولوجية قابلة للفحص والمعاينة، كما كان الحال في جميع المدن الأندلسية وفي فاس ودمشق والقاهرة وبغداد وغيرها من الحواضر.
وقد دلت تلك الوقائع السوسيولوجية على أن التساكن طريق التسامح، إذ كان التأليف في الملل والنحل نتاج هذا التساكن لتأسيس فكر التسامح. وفي الوقت ذاته، تحولت تلك المؤلفات نفسها في ما بعد إلى وسيلة أو أداة لبناء التسامح أو على الأقل التفكير فيه، حتى في الأمكنة والفضاءات التي لم يُقدّر لها أن تعيش حالة من التساكن بين مختلفين.
هذا التراكم النظري في علم الملل والنحل أصبح اليوم بحاجة إلى إحياء. ثمة حاجة ملحة إلى ابن حزم يحاور ابن النغريلة، وإلى بيروني يحاور الهنادكة، وإلى شبيه بالقاضي عبد الجبار المعتزلي وهو يتحدث إلى النصارى كما لو أنه يكلم جاره المسلم، وإلى الشيعي وهو يحاور السني.
تلك هي الثقافة التي غابت عن وعينا العربي ـ الإسلامي في العصر الحاضر، وكبّلت حركتنا التاريخية، وجعلتنا أضحوكة بين الأمم، لكوننا أشبه ما نكون بحمار يحمل أسفاراً، ذلك أن هذا الكم الهائل من المدونات الفقهية والكلامية في مجال الملل والنحل لا يوجد له نظير لدى أي أمة من الأمم قبل عصر النهوض الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولكننا تأخرنا فسبقونا، لأننا وقعنا في فهم ضيق للتدين أدى بنا إلى وعي معتل بما لدى الآخر من إمكانيات للحوار والتفاهم.
تلك هي ملاحظة عدد كبير من المستعربين الإسبان الذين درسوا الخبرة الإسلامية في الحوار الديني في الأندلس طيلة القرون الثمانية التي مكث فيها المسلمون في شبه الجزيرة الإيبرية، أمثال ميغيل أنخيل بالاثيوس صاحب كتاب "الإسلام المتنصر"، الذي درس فيه بعمق تجربة محيي الدين بن عربي في التحاور مع الآخر النصراني المختلف، وخوان خيمينيث مؤلف الكتاب المثير للجدل "ما يدين به الغرب للمسلمين"، وهو ما نحتاج اليوم إلى أن نذكّر به كلاً من الغربيين الذين يتهمون المسلمين بالفقر المعرفي والتجربة الضامرة في مضمار فلسفة التسامح، والمتطرفين الذين يقفزون على هذا التراكم الحضاري الضخم ويتهمون جميع المسلمين بالولاء للغرب.
لعل هذه هي الرسالة التي يمكن قراءتها في الزيارة التاريخية لبابا الفاتيكان إلى العراق. لسنا مدعوين إلى الارتباط الأبدي برمزية الأندلس، لكي نبقى أسيري التاريخ ونشقى به، بل نحن مدعوون إلى إحياء التجربة الأندلسية ونقلها إلى كل مكان من العالم العربي ـ الإسلامي، لكي يصبح كل مكان يشهد تعددية دينية وإثنية أندلساً ثانية، بدلاً من أن يكون مسرحاً للاقتتال والتطاحن.
وحده الحوار الديني، من خلال اللقاء بين المرجعيات الثلاث ـ المسيحية والشيعية والسنية ـ كفيل بأن يمهد الطريق أمام عربة التسامح والتعايش. لقد حملت زيارة البابا رسالة أساسية مفادها أن الحوار يجب أن يتخطى ما هو سياسي، هذا إن لم يكن ممكناً جعل السياسي في خدمة التقارب الديني، لا النقيض.
وفي ظل الأجواء الملبّدة التي يمر بها العالم الإسلامي، والتكالب الأميركي ـ الغربي على النموذج الشيعي في إيران، بات من الواضح أن كل ما يمكن أن يُفهم منه وجود سياسة "سنية" تجاه إيران ونموذجها هو أمر بحاجة إلى مراجعة، فلا يمكن المراهنة على حالة الاستقطاب القاتلة هذه لخدمة حالة الاحتراب، لأن من يصبّ الماء في طاحونة تلك السياسة السنية المزعومة إنما يصبه في طاحونة السياسة الإمبريالية الأميركية التي من مصلحتها أن يبقى الممزق ممزقاً، وأن يبقى الفاعل السياسي العربي كالمنبت، لا أرضاً يقطع ولا ظهراً يُبقي.