من "أسرة الجهاد" إلى أحضان "الليكود": قراءة في تحوّلات غريبة
برز نوع من التقارب غير المسبوق بين منصور عباس، نائب رئيس الحركة الإسلامية الجنوبية، رئيس القائمة العربية الموحدة، الذراع السياسية لتلك الحركة، وبنيامين نتنياهو.
في مرحلة تأسيسها الأولى، تشكَّلت نواة الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني المحتل من مجموعات شبابية عفوية "تائبة"، غلب التدين الانفعالي عليها في بداية سبعينيات القرن الماضي، لكن نهاية سبعينيات ذلك القرن شهدت تحوّلين لافتين، تمثّل الأوّل في اتصال عبد الله نمر درويش، رئيس الحركة الإسلامية الأسبق، بقيادات جماعة الإخوان المسلمين في شمال الضفة الغربية خلال دراسته الشرعية في نابلس، واتصال رائد صلاح بقيادات تلك الجماعة في القدس وجنوب الضفة الغربيّة وقطاع غزة خلال دراسته في جامعة الخليل، في حين تمثّل التحوّل الآخر في تأسيس خلايا "أسرة الجهاد" شبه العسكرية في العام 1979.
خلايا "أسرة الجهاد" تشكّلت من مجموعة تقارب 60 فرداً، على رأسها فريد أبو مخ، الذي كان مأخوذاً بتجربة الشيخ عز الدين القسام. اعتقلت سلطات الاحتلال تلك الخلايا في العام 1981، وحكمت على أفرادها بالسّجن لفترات متفاوتة، أقصاها حكم فريد أبو مخ لمدة 15 سنة، والَّذي تحرّر من الأسر في العام 1985 في صفقة "النورس" لتبادل الأسرى، في حين حكم على عبد الله نمر درويش بالسجن لمدّة 4 سنوات، وأفرج عنه في العام 1984 بوصفه "شيخاً" روحياً لأسرة "الجهاد".
أواسط ثمانينيات القرن الماضي شهدت انتقال تلك الخلايا إلى حالة منظّمة تحت اسم "الحركة الإسلامية"، على رأسها عبد الله نمر درويش. وتميّزت تلك الفترة بتداخل النشاطات وغموض العلاقات التنظيمية بين الحركة الإسلامية في الداخل ونظيرتها في الضفة الغربية، والتي كانت امتداداً تنظيمياً فرعياً لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن.
مفاصل وتحولات
لحظة اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987 وما بعدها شكلت تميزاً مفصلياً في رسم حدود الجغرافيا التنظيمية لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، إذ استقلت الجماعة تنظيمياً في حدود فلسطين المحتلة العام 48 تحت اسم "الحركة الإسلامية" في الداخل، وبرزت حركة "حماس" بوصفهاً تنظيماً للإخوان المسلمين في حدود الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين. تلك اللحظة توّجت عبد الله نمر درويش، بوصفه رئيساً للحركة الإسلامية في الداخل، في الوقت نفسه الذي ظهر فيه إلى العلن تماهي موقفه المعارض للانتفاضة وانخراط الإخوان المسلمين في مقاومة الاحتلال خلالها مع مواقف قيادات إخوانية مهمة في الضفة الغربية، على رأسها سعيد بلال.
نهاية ثمانينيات القرن الماضي شهدت بروز قوة الحركة الإسلامية الجماهيرية في الداخل، وخصوصاً العام 1989، حين فازت برئاسة 5 بلديات ومجالس محلية، وبعضوية عشرات البلديات والمجالس الأخرى، لكن تلك القوة حملت في أحشائها بذور الانشقاق الكبير بعد 7 سنوات، إذ انشقت تلك الحركة إلى جناحين في العام 1996، على خلفية قرار عبد الله نمر درويش ومعسكره المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، وهو انشقاق سبقه تصويت في هيئات الحركة الإسلامية، كانت نتيجته رفض المشاركة، ثم تصويت ثان أصرّ عليه أنصار المشاركة، بعد ضمانهم النتيجة هذه المرة، من خلال إضافة أعضاء جدد من أنصارهم من هيئات النقب المحلية، وكانت نتيجته قبول المشاركة، إلى درجة أن رائد صلاح كتب حرفياً: "كدنا ندخل الكنيست"، لولا تدخل كمال الخطيب في اللحظة الأخيرة، حين كشف تلاعباً مسبقاً أو "كولسة"، كما قال بلغته، في هيئات الجليل المحلية، وهو التدخل الذي أدى إلى حسم موقف الشمالية وتبني رأي الخطيب الذي كان رافضاً بالمطلق للمشاركة في انتخابات الكنيست، خلافاً للرأي الوسطي الذي كان يتبناه صلاح، كما كانت تتبناه الحركة الإسلامية قبل الانشقاق، أي عدم المشاركة الرسمية والسماح للأعضاء بالتصويت الفردي.
منذ تلك اللحظة المفصلية، انقسمت جغرافيا الحركة الإسلامية التنظيمية في الداخل بين خطين متوازيين؛ خطّ قاده عبد الله نمر درويش، ثم إبراهيم صرصور، ويتركز في المثلث الجنوبي والنقب وبعض المدن والبلدات، وهو الخط الذي اشتهر إعلامياً باسم "الحركة الإسلامية الجنوبية"، ويرأسه الآن حماد أبو دعابس، وخط يقوده رائد صلاح وكمال الخطيب، ويتركز في المثلث الشمالي والجليل وبعض المدن والبلدات، وهو الخط الذي اشتهر إعلامياً باسم "الحركة الإسلامية الشمالية"، وكان معارضاً للمشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي.
وقد أعاد كل خط بناء مؤسساته الحركية المركزية والمناطقية من جديد، مع احتفاظ الخط الشمالي بالسيطرة على معظم مؤسسات الحركة الإسلامية، وخصوصاً صحيفة "صوت الحق"، وكلية الدعوة، ولجنة الزكاة القطرية، ولجنة الإغاثة الإسلامية وغيرها، ليتعرض خط الحركة الشمالية إثر ذلك لسلسلة من الإجراءات القمعية الاحتلالية، بلغت ذروتها في اعتقالات العام 2003، ثم قرار المؤسسة الإسرائيلية إعلان تلك الحركة "خارجة عن القانون"، وحظر مؤسساتها في العام 2015، بقرار من بنيامين نتنياهو الذي قال عندها: "إن الجسم التنظيمي الوحيد الذي يخاطب الجمهور باسم الحركة الإسلامية هو الذي يرأسه الشيخ حماد أبو دعابس"، حسبما يورد كمال الخطيب نائب رئيس الشمالية.
الإجراءات الإسرائيلية بحقّ الحركة الإسلامية الشمالية وإغلاق مؤسساتها ساهما مع الوقت بعكس ميزان القوى لصالح الحركة الإسلامية الجنوبية، وخصوصاً في ميدان العمل الجماهيري والمؤسساتي، إذ طورت هيئاتها الداخلية القيادية والإدارية وشبكة مؤسساتها الجماهيرية التي ورثت بشكل أو بآخر مؤسسات الشمالية أو شكّلت منافساً لما تبقى منها، فصار لديها رئيس هو حماد أبو دعابس ونائب للرئيس ورئيس للإدارة العامة، هو صفوت فريج، رئيس جمعية الأقصى، ومكتب سياسي يرأسه إبراهيم حجازي، ومجموعة مهمة من المؤسسات، كجمعية الأقصى لرعاية الأوقاف والمقدسات الإسلامية، صاحبة مشروع "قوافل الأقصى لشد الرحال"، والجمعية الإسلامية لإغاثة الأيتام والمحتاجين "جمعية الإغاثة 48"، ومركز "أمان" الذي يرأسه كامل ريان، ودار الإفتاء والبحوث الإسلامية التي يرأسها محمد سلامة، وهي مختلفة عن المجلس الإسلامي للإفتاء الذي يرأسه مشهور فواز القريب من الشمالية، إضافة إلى صحيفة "الميثاق" التي يملك امتيازها إبراهيم صرصور وغيرها.
كما أن الحركة الإسلامية الجنوبية تمتعت في الوقت ذاته بحرية العمل السياسي منذ لحظة خوضها انتخابات الكنيست الإسرائيلي الرابعة عشرة في العام 1996 ضمن تحالف القائمة العربية الموحدة مع الحزب الديمقراطي العربي، وهي القائمة التي فازت بأربعة مقاعد، منها مقعدان للحركة (عبد المالك دهامشة وتوفيق الخطيب)، إلى جانب عبد الوهاب دراوشة وطلب الصانع، إلى لحظة حصولها على أربعة مقاعد في الكنيست الثالث والعشرين في العام 2020 (سعيد الخرومي ومنصور عباس ووليد طه وإيمان خطيب) ضمن القائمة العربية المشتركة، مروراً بانتخابات 1999، و2003، و2006، و2009، و2013، و2015، و2019.
الحدث الأبرز اللافت كان قرار الحركة الإسلامية الجنوبية الانفصال عن القائمة العربية المشتركة في شباط/فبراير 2021، وهو قرار سبقته تمهيدات لافتة بدورها، حين ألغى منصور عباس، بصفته رئيساً لإحدى جلسات الكنيست، التصويت لفتح تحقيق ضد بنيامين نتنياهو في تشرين الأول/أكتوبر 2020، وحين عارضت قائمة منصور عباس قرار القائمة المشتركة، ورفضت التصويت على إسقاط حكومة نتنياهو، مبررة موقفها على لسان منصور عباس "بأن إسقاط نتنياهو هو شعار انتخابي، وليس هدفاً للعمل البرلماني" في بداية كانون الأول/ديسمبر 2020، ثم امتناعها عن التصويت ضد قانون تمديد الموعد النهائي لإقرار الميزانية الذي يهدف إلى تمديد ولاية نتنياهو رئيساً للحكومة الإسرائيلية، رغم قرار المشتركة التصويت ضد هذا القانون في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2020، ووصف منصور عباس للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال بـ"المخربين"، واعترافه بأنه التقى في الماضي رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس خالد مشعل، لبحث ما سماه بـ"مبادرة سلام دينية"، أطلقها مع الحاخام والوزير الإسرائيلي السابق ميخائيل ملكيور، قائلاً إنَّ اللقاء تم بمعرفة "الذين يجب أن يعرفوا بأمره"، في إشارة إلى الجهات الإسرائيلية الرسمية في شباط/فبراير 2021.
خلال ذلك كله، برز نوع من التقارب غير المسبوق بين منصور عباس، نائب رئيس الحركة الإسلامية الجنوبية، رئيس القائمة العربية الموحدة، الذراع السياسية لتلك الحركة، وبنيامين نتنياهو، وإعلان الأول أنه لا يرى أي عائق لتعميق العلاقات بينه وبين زعيم "الليكود"، مذكّراً بأنه لا يكترث إلى موقف اليسار الرافض لهذا التقارب.
كما ذهب عباس أبعد من ذلك، إذ أكد إمكانية دعم نتنياهو سياسياً عقب الانتخابات المقبلة، مع توقعات بقيام "الجنوبية" بتشكيل تحالف بديل للقائمة العربية المشتركة في انتخابات الكنسيت القادمة في الثالث والعشرين من آذار/مارس، وهو تحالف قد يتشكَّل من "الجنوبية" وقائمة "ناصرتي" التي يترأسها علي سلام، رئيس بلدية الناصرة، المعروف بعلاقاته مع نتنياهو، ومازن غنايم، رئيس بلديّة سخنين وعضو حزب التجمع الوطني الديمقراطي السابق.
الطبيعي والغريب
ما قد يبدو "غريباً" في القراءة الأولى لن يظهر كذلك بعد الحفر والتحليل. وكأرضية لازمة لتأسيس فهم أدق وتحليل أعمق لخلفيات وجذور ما حدث ويحدث وما يمكن أن يحدث، لا بدّ من إرجاع الظاهرة إلى أصولها وردّ النتائج إلى مقدماتها، وهي مقدمات يمكن تكثيفها في غرابة وتعقيد الحالة الفلسطينية داخل حدود نكبة 48 أولاً، وطبيعة الإطار المنهجي لجماعة الإخوان المسلمين ثانياً، وشخصية الشيخ عبد الله نمر درويش وفكره وشبكة علاقاته ثالثاً.
في المقدمة الأولى، حدث تحوّل هائل في مكانة الوطن المحتل العام 48 ومن صمد من الشعب الفلسطيني هناك في برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، بعد تبني برنامج النقاط العشر "البرنامج المرحلي" في العام 1974، لتغدو فلسطين المحتلة العام 48 "دولة إسرائيل" بحكم الأمر الواقع، وليغدو سقف مطالب شعبها وأحزابها السياسية تحصيل حقوق "المواطنة" في المساواة ضمن حدود القانون الإسرائيلي، ليتشكَّل المشهد السريالي الأكثر غرابة بعد اتفاقيات "أوسلو"، حين أصبحت السلطة الوطنية الفلسطينية مسؤولة قانونياً وسياسياً عن عدة ملايين من "المواطنين" الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتركّزت إشكالياتها أكثر في استكمال بناء مؤسسات الدولة والتنمية، فيما أصبح أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل "مواطنين" إسرائيليين وأصواتاً انتخابية ترجّح كفة هذا الحزب الإسرائيلي أو ذاك في الرواية الرسمية الفلسطينية، بحكم الاتفاقيات الموقعة، وجسراً للسلام بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي في أحسن الأحوال.
التحوّل إياه قيّد فصائل منظمة التحرير الفلسطينية قبل بروز الحركة الإسلامية بسنوات، ولم تعد فلسطين المحتلة العام 48 ساحة عمل تنظيمي لتلك الفصائل منذ ذلك الوقت، وبات "النضال المدني" منهجاً وحيداً لامتدادات تلك الفصائل "غير التنظيمية" في الداخل الفلسطيني المحتل.
في المقدمة الثانية، يرى الناظر إلى مسار الحركة الإسلامية في الداخل والمتتبّع لمنحى تطورها امتداداً طبيعياً لجماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي، فإنها لا تشكل خروجاً عن القاعدة والسائد المألوف الذي ميّز تلك الجماعة، وخصوصاً في ما يتعلق بطبيعة الإطار المنهجي الذي أحاط بها، وهو مزيج فريد تكوّن من تعميم غير حاسم في طرح الشعارات والمواقف والسياسات، ومن مساعٍ توفيقية حريصة على لمّ الشتات وجمع الطاقات وتأجيل الخلافات، حفاظاً على "وحدة" الجماعة، وحضور مؤثر "للشخصانية" الفردية القيادية في التأطير والتوجيه وصناعة السياسة في الموقع المعيّن، وغير ذلك مما أدى ويؤدي إلى تعدد التفسيرات للنص الواحد والسياسة الواحدة، بل تناقضها أحياناً، وظهور مدارس واتجاهات مختلفة داخل التنظيم الإخواني الواحد على مستوى القطر الواحد من الأقطار، ما كان يؤدي إلى أحياناً إلى التفرق والانقسام التنظيمي في حالة الوصول إلى مرحلة التناقض الحاد واستحالة التوفيق، كما حدث في تونس وسوريا والسودان على سبيل المثال.
وبرز في ساحة العمل الإخواني العالمي أكثر من فهم ورؤية، وأكثر من نهج وطريق، كان أهمها نهجين؛ الأول يرى في "النصوص" مرجعاً، ويرى الالتزام بالأصالة منطلقاً وموجهاً، ويتعامل مع "الواقع" على هذا الأساس من أجل تغييره بشكل جذري ورفعه إلى مستوى "المثال"، وبالتالي فلا مهادنة ولا مصالحة مع هذا الواقع، وهو نهج تعود منابعه إلى أفكار سيد قطب، بخلاف الآخر الذي يحكمه الواقع أكثر من النص، ويرى في التعاطي المرن مع ضغط الظروف والانحناء لها نوعاً من السياسة الواقعية أو الواقعية السياسية التي لا تتعارض مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها العامة، مطوّعاً "النصوص" لخدمة مقصده، عاثراً في دعاوى "التجديد" على بغيته ومطلبه، وهو نهج مثّله المرشد الثاني للإخوان حسن الهضيبي، ويشكل يوسف القرضاوي مرجعيته الفكرية حتى الآن.
كلا النهجين يسير في خطين متوازيين. وما يبدو في ظاهر الأمر من وفاق بينهما، لا يعدو كونه "تأجيلاً" لحالة الانفصال التي حدثت وتحدث بحسب ما يقتضيه منطق الحياة وطبيعة الأشياء، وكان واضحاً منذ البدايات اصطفاف جناح الشمال إلى جانب الاتجاه الأول من الناحية الفكرية، وانحياز جناح الجنوب إلى جانب الاتجاه الثاني.
وقد ساهمت في ذلك الأصول التربوية لرموز كل جناح، فرائد صلاح وكمال الخطيب وهاشم عبد الرحمن مثلاً من خريجي كلية الشريعة في جامعة الخليل، مقتربين من قيادات الإخوان التاريخية فيها وفي قطاع غزة، وهم الأقرب فكرياً إلى الاتجاه الأول، في حين تربى عبد الله نمر درويش في المدرسة الشرعية في نابلس، متماهياً إلى حد كبير مع سعيد بلال وحامد البيتاوي ومحمد فؤاد أبو زيد وناجي صبحة، وهم يمثلون الاتجاه الفكري الثاني إلى حد كبير.
المقدمة الثالثة يبرز فيها عامل "الشخصانية" كعامل ذي أهمية حاسمة خاصة، في ظل واقع مشابه لذاك الذي تحياه الحركة الإسلامية في الداخل، فشخصية عبد الله نمر درويش الكاريزماتية المصابة بتضخم الشعور بالذات، والطموحة لتبوؤ دور مرموق، بل الدور المرموق على مستوى العمل الإسلامي والعمل السياسي المحلي والإقليمي، إن لم نقل العالمي، هذه الشخصية كان لها أثر كبير في استقطاب وتأطير قطاع عريض من أبناء الحركة الإسلامية في الداخل، وخصوصاً في المثلث الجنوبي والنقب، في محورها/ شخصها، لما تملكه من مقدرة خطابية وتأثيرية عالية.
هذا القطاع هو الذي انحاز بشكل تام إلى قرار درويش المشاركة في انتخابات الكنيست، وتكوّن من شبكة مفاصل مهمة تأسَّست على قاعدة مزيج من العلاقات "الزبائنية" بمعناها السوسيولجي ومفهوم "السمع والطاعة" في التراث السني الإسلامي، مثل إبراهيم صرصور وكامل ريان وتوفيق الخطيب وحامد أبو دعابس ومنصور عباس وغيرهم.
دينامية عبد الله نمر درويش وطاقاته العالية تحركت في ذلك الفضاء الثلاثي، وما زالت تحرّك "الجنوبية" حتى اللحظة، لتغدو مواقفها نتائج طبيعية لتلك المقدمات، فالشيخ عبد الله "لم يكن صاحب المبادرة الأساسية" في تأسيس "أسرة الجهاد"، كما يؤكد رائد صلاح، "لكنه كان معروفاً بأنه رئيس الصحوة الإسلامية في تلك الفترة".
لذلك، تم اعتقاله مع المجموعة. ومنذ لحظة اللقاء التأسيسي التاريخي للحركة الإسلامية في الداخل بعد الإفراج عن الشيخ درويش في العام 1984، يشير رائد صلاح إلى شعوره "بأنَّ هناك أكثر من اتجاه إسلامي في المنطقة: الشّيخ رائد والشيخ كمال الخطيب يمثلان خطاً، والشيخ عبد الله بصلته مع سعيد بلال يمثل خطاً آخر"؛ الأول "مع خط الامتداد للحركة الإسلامية العالمية. وكان واضحاً أن الشيخ عبد الله لديه حرص شديد على فصل مطلق للمنطقة في كل شيء عما سواها".
الخط الثاني أكّده درويش نفسه في برنامج "بلا حدود" على قناة "الجزيرة" قبيل انتخابات كنيست 1999، بقوله: "نحن جزء من فكر ونهج ونظام الصحوة الإسلامية التي أطلقها حسن البنا، لكننا لسنا جزءاً من أي تنظيم لأي حركة إسلامية، لأن ظروفنا وأوضاعنا تتطلب ذلك".
منذ تلك اللحظة، بدأ خط درويش "يترجم في مواقف وأحداث وشخصيات"، كما يشير رائد صلاح، وتمثّلت مواطن الخلاف بينه وبين الخط الآخر في 5 قضايا محورية يذكرها صلاح بوضوح في كتابه "إضاءات على ميلاد الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيلياً"، وهي العلاقة والتعامل مع الكيان الإسرائيلي، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وانتخابات الكنيست، والقضايا الإسلامية العامة، والتصريحات الإعلامية واللقاءات مع الإعلام الصهيوني.
في ضوء ذلك، يمكن "فهم" الكثير من مواقف درويش الَّتي كانت "مواقف" الجنوبية امتداداً لها، مثل وصفه تجربة أسرة الجهاد بـ"غلطة شباب"، ورفض نظريّة الثورة الإسلامية التي نادى بها الشيخ سعيد حوّى، ووصفها بأنها غير واقعيّة، ومشاركته في نشاطات المركز اليهودي العربي للسلام في مستعمرة جفعات حبيبا، وعلاقاته مع شمعون بيرس، ومعارضته للانتفاضة الأولى، وتأييده اتفاقيات "أوسلو"، ومحاولاته المبكرة للمشاركة في انتخابات الكنيست بالتنسيق مع محمد ميعاري، رئيس القائمة التقدمية للسلام، قبل نجاح تلك المحاولات في العام 1996، مع عبد الوهاب دراوشة، عضو حزب العمل الإسرائيلي السابق ورئيس الحزب الديمقراطي العربي، ومواقفه السلبية من المبعدين الفلسطينيين إلى "مرج الزهور" في بداية تسعينيات القرن الماضي وغير ذلك.
خاتمة
إنّ خصوصيّة الحالة الفلسطينية في الداخل وتعقيدها وطبيعة الإطار المنهجي لجماعة الإخوان المسلمين مكّنتا الشيخ عبد الله نمر درويش، بشخصيته الإشكالية، من بناء "نهج" جديد موغل في "البراغماتية السياسية" التي تتوسل النصوص والتاريخ وتتوسَّع في "التأويل"، لتبرير موقفها السياسي من جانب، وتتشدد أحياناً في الموقف الاجتماعي، لتحافظ على نوع من التوازن النفسي/ الجمعي في خطابها من جانب آخر.
في الجانب الأول، نرى مفردات "بطن الحوت" و"النجاشي" و"الحيلة/ الخديعة" في خطاب درويش. وفي الجانب الثاني، نرى الدعوة إلى "احترام الشريعة والأخلاق" في خطاب عباس منصور، لتبرير انفصاله عن القائمة المشتركة، وهي دعوة لا معنى لها في لعبة سياسية حدودها الكنيست الإسرائيلي.
الإيغال في البراغماتية السياسية وصل حدّ "التطرف" في ممارسات القائمة العربية الموحدة، الذراع السياسية للجنوبية، ذلك أنَّ بقية مكوّنات الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل في العموم تتّفق على حصر سقف نضالها السياسي ومطالبها المدنية المحكومة قصراً بالقوانين الإسرائيليّة، بما في ذلك جناح الشّماليّة في الحركة الإسلاميّة التي حكمها قبل الانشقاق نظام أساس تمَّ اعتماده في العام 1992، وينصّ بوضوح على "عدم مخالفة قوانين دولة إسرائيل"!