إحياء الجبهة الأطلسيَّة: الفشل الَّذي ينتظر الإدارة الأميركيّة الجديدة بالوقائع والأرقام

هل سيستطيع بايدن فعلاً إصلاح ما أفسده ترامب في هذا الحلف الذي تضرر كثيراً بفعل سياساته التي جعلتهم تابعين وخاضعين، لا شركاء في المصالح والأهداف؟

  • إحياء الجبهة الأطلسيَّة: الفشل الَّذي ينتظر الإدارة الأميركيّة الجديدة بالوقائع والأرقام
    إحياء الجبهة الأطلسيَّة: الفشل الَّذي ينتظر الإدارة الأميركيّة الجديدة بالوقائع والأرقام

البارز في السّياسة الخارجية الأميركية الجديدة برئاسة بايدن هو توجّهها نحو إعادة اللحمة إلى الجبهة الأطلسية، كجبهة موحدة في مواجهة روسيا والصين وكل من تراه أميركا مناهضاً لهيمنتها من المحور المقاوم، رغم التعبير عن رغبتها في العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني ووقف الحرب في اليمن، اللذين ترى فيهما محطات مشاغلة تستنزف مصداقيتها أمام الرأي الدولي والأميركي، وتلهيها عمن تعدهم خصوماً استراتيجيين يقوّضون هيمنتها على العالم، من دون المساس بمصالح شركائها الإسرائيليين ودول الخليج، مع تذكير نتنياهو وابن سلمان بضرورة احترام قرارات حليفهم الأكبر الذي يعود له الأمر في السياسات التي يقرّها لمنطقة الشرق الأوسط، بما ينسجم مع مصالح أميركا أولاً.

 لكن هل سيستطيع بايدن فعلاً إصلاح ما أفسده ترامب في هذا الحلف الذي تضرر كثيراً بفعل سياساته التي جعلتهم تابعين وخاضعين، لا شركاء في المصالح والأهداف؟ وهل الظروف الحالية وما تتسم به من توطيد للعلاقات التجارية بين أوروبا وكل من روسيا والصين، وتحول هذه الدول نحو اقتصاد السوق، وتبني روسيا الخيار السياسي الديمقراطي الليبرالي، يساهم فعلاً في إعادة إحياء الجبهة الأطلسية بالحماسة نفسها التي كانت عليها إبان الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، والتي كان الصراع فيها وجودياً بين نمطين من الإنتاج يقفان على طرفي نقيض؟

إنها أسئلة تحيلنا إلى ما يمكن أن تكون عليه العلاقات الدولية مستقبلاً، وتحدّد مدى قدرة بايدن على إحياء الجبهة الأطلسية، التي يبدو أنها فقدت الضرورة الموضوعية لوجودها أصلاً، وذلك بعد أن انتفت الأحلاف التقليدية الأخرى وأصيبت علاقاتها البينية بأميركا بتلف كبير يستحيل ترميمه للاعتبارات التالية:

- سقوط نموذج الديمقراطية الأميركية، والذي أصبح موضع سخرية من طرف الكثير من الدول، بما فيها الأوروبية، وخصوصاً مع ما أظهرته التطورات الأخيرة للنظام السياسي الأميركي الذي تفاقمت تناقضاته الداخلية نتيجة الصراعات الأفقية والعمودية التي يعيشها المجتمع الأميركي المنقسم على نفسه، وكذا الفساد السياسي والأخلاقي لنخبه السياسي.

وقد أصبح هذا النموذج فاقداً للجاذبية التي لطالما روج لها الإعلام الأميركي، بوصفه النموذج الذي عمل على تصديره إلى بقية شعوب العالم، عبر العولمة الثقافية والاقتصادية التي روّجت لقيم أثبت الواقع الأميركي الحالي زيفها، وهي الحقيقة المؤلمة التي أدركتها النخبة السياسية الأميركية نفسها، ودفعت الرئيس الحالي بايدن إلى اتهام الرئيس بوتين بالتهكم على الديمقراطية الأميركية، وهو ما جعل منه قضية تأثرت بها سياساته الخارجية مع روسيا. 

- إن الصراع الإيديولوجي الذي لطالما كان حافزاً للولايات المتحدة الأميركية كمدافعة عن العالم الحر، من أجل توطيد جبهة الحلفاء الأوروبيين ضد التهديد الشيوعي الذي كان يمثله المعسكر الاشتراكي، لم يعد موجوداً، بعد أن التحقت دول هذا المعسكر بالنظام الاقتصادي الليبرالي. 

وبالتالي، إنّ محاولة بايدن الأخيرة التوجه إلى حلفاء أميركا التقليديين من أجل رأب صدع ما شاب علاقتها بهم خلال مرحلة الرئيس السابق دونالد ترامب، لن تعيد الحلف إلى سابق عهده.

 ولن يتمكّن بايدن من توظيف هذا الحلف في صراع أميركا الاستراتيجي ضد كل من روسيا والصين، بعد أن انتفت فيه الخلفية الإيديولوجية، وحل محله التنافس على المصالح التجارية والاقتصادية بين القوى الكبرى من داخل البنية نفسها للنظام الاقتصادي الليبرالي الذي ربط العالم بشبكة من المصالح الاقتصادية المشتركة تارة، والمتناقضة تارة أخرى، والتي يجب تدبيرها وفق قواعد القانون التجاري الدولي، وليس بالتهديدات والعقوبات الأحادية من خارج المؤسسات الأممية والدولية، وهي التحولات التي لم تكن أوروبا بمعزل عنها، رغم تأثير الرواسب العالقة بالعقل السياسي الأوروبي منذ زمن الحرب الباردة، والذي يؤثر في بعض قراراتها العقابية ضد روسيا التي تشكل في حقيقة الأمر امتداداً طبيعياً لها، ويمكن أن تشكل قيمة مضافة لها إن احتكم العقل الأوروبي الغربي إلى التفكير السليم، وتخلَّص من عقدة الهيمنة الأميركية التي ما زالت تلاحقه، ولا تريد لهذا التقارب أن يحصل.

- المصالح الاقتصادية والتجارية المشتركة بين كل من أوروبا والصين وروسيا، سواء عبر مشاريع الطاقة الروسية الأوروبية، أو عبر الاستثمارات الاقتصادية الضخمة التي تقارب 150 مليار يورو بالنسبة إلى الصين، التي أصبحت ثالث مقصد للاستثمارات الأوروبية، أو عبر المبادلات التجارية معها، والتي بلغت 586 مليار يورو، في مقابل 555 ملياراً مع الولايات المتحدة الأميركية، رغم بعض التوترات التي تتحكّم بها رواسب الماضي. كل هذا جعل إمكانية العودة إلى الأحلاف القديمة أو الجبهة الأطلسية للغايات والأهداف نفسها غير ممكن، وخصوصاً أن القطب الاقتصادي لدول شرق آسيا ومجموعة البريكس أصبح أكثر جاذبية لرأس المال، كما أصبح واعداً من حيث النمو الاقتصادي والتجاري والتقني.

إنّ محاولات بايدن إعادة أميركا إلى المربع الأول، زمن الحرب الباردة، حين كانت تتزعم الحلف الغربي أو ما كان يسمى بالعالم الحر من دون منازع، من أجل الوقوف ضد الصين وروسيا من جديد بخلفية غير إيديولوجية، هو من جهة اعتراف ضمني بتعددية قطبية وإقرار بنهاية مرحلة الهيمنة الأميركية التي تلت تفكيك الاتحاد السوفياتي 1991، والتي أبى ترامب الإقرار بها كذلك، وهو ما دفعه إلى انتهاج سياسات خارجية عدائية حتى مع من كانوا يعدون حلفاء تقليديين لأميركا، من أجل إثبات هيمنة لم تعد مقوماتها موجودة على أرض الواقع، سواء بالعلاقة مع تراجعها كقوة اقتصادية وعسكرية مهيمنة على العالم، أو بما تعيشه من أوضاع سياسية واجتماعية داخلية أظهرت ترهل نظامها السياسي ونموذجها الديمقراطي، أو علاقة ببروز قوى دولية عالمية جديدة منافسة لها اقتصادياً وتكنولوجيا كالصين، التي تربطها علاقات تجارية مهمة مع دول أوروبا الغربية، إذ بلغت ما يقارب 40% من مجموع معاملاتها التجارية، إضافةً إلى استعادة روسيا عافيتها الاقتصادية، وهي التي ترتبط بدورها مع الدول أوروبية بمشاريع مشتركة للطاقة، والتي التحقت في العام 2020 بالنادي الخماسي للدول المتقدمة من حيث الإنتاج السنوي المحلي، وكذا استعادة قوتها العسكرية الرادعة والهجومية التي تقف نداً للولايات المتحدة الأميركية.

وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى بعض مؤشرات هذه الندية التي يمكن تلخيصها في العودة القوية لروسيا إلى مجلس الأمن الدولي، والمشاركة الفعالة في صياغة قراراته، بعد أن كانت أميركا قد هيمنت عليه زمن غورباتشوف وبوريس السين اللذين كانا يجسدان مرحلة ضعف روسيا ويتبعان يشكل مطلق لأميركا، وهو ما عكسه عدد المرات القليلة التي استعملت فيها روسيا حقّ الاعتراض الذي لم يتجاوز مرتين على امتداد 20 عاماً من العام 1991 إلى العام 2010، مرة من أجل صرب البوسنة في العام 1994، ومرة أخرى من أجل قبرص في العام 2004، في مقابل 79 اعتراضاً للاتحاد السوفياتي خلال السنوات العشر الأولى فقط من تأسيس الأمم المتحدة.

هذا في الوقت الذي اتخذت أميركا في هذه المرحلة قرارات خطيرة طالت حلفاء وشركاء اقتصاديين سابقين لروسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي، كالعراق وليبيا، وتوسيع الحلف الأطلسي شرقاً، وتفتيت يوغوزلافيا ودول البلقان...

لكن، وابتداء من العام 2011، سيشهد العالم تحولاً في اتجاه الحد من الأحادية القطبية الأميركية، وذلك بالعودة القوية للصين وروسيا إلى مجلس الأمن، والتي عكسها عدد المرات الكثيرة التي استعملتا فيه حق النقض. وقد بلغ 8 مرات لروسيا و4 مرات للصين في مدة لم تتجاوز 7 سنوات.

كما أن هاتين القوتين العالميتين المتمثلتين في الصين وروسيا تربطهما علاقات استراتيجية اقتصادية وعسكرية تقدّر بمئات الملايين من الدولارات، ما يجعلهما قوتين جاذبتين لباقي دول العالم النامي الذي يسعى إلى علاقات دولية تحفظ المصالح المشتركة، وتحترم مبدأ عدم التدخل في القرارات السيادية للدول والحكومات، بل إن هذا التكتل الاقتصادي والتجاري الذي توفره مجموعة دول البريكس أصبح يتمتع بقوة جذب حتى لمن كانوا حلفاء تقليديين لأميركا، وخصوصاً بعد أن انتفى الصراع الإيديولوجي لصالح الشراكات الاقتصادية والتجارية التي تعتمد مبدأ رابح رابح.

يبدو أن مشكلة الولايات المتحدة الأميركية إذاً لا يمكن اختزالها في ما أفسده دونالد ترامب داخلياً وخارجياً، وبالتالي يمكن إصلاحه باتخاذ بعض القرارات أو إلغاء أخرى، بل في قدرة النخبة السياسية والاقتصادية الأميركية على استيعاب التحولات الكبرى التي يشهدها الداخل الأميركي علاقة بالتناقضات الكبيرة التي مست بنيات نظامه السياسي والاجتماعي.

ومن جهة أخرى، بروز قوى عالمية جديدة عسكرية واقتصادية منافسة بقوة على صدارة العالم ضمن إطار النظام الاقتصادي الليبرالي، وبروز قوى إقليمية صاعدة مقاومة للهيمنة الأميركية تطمح لفرض مكانتها الدولية، بما يخدم استقلالية قراراتها ومصالحها الاستراتيجية، وذلك من أجل التفكير بطريقة مغايرة تقطع من خلالها مع الاستراتيجيات القائمة على مبدأ إعادة فرض الهيمنة الأميركية لصالح مبدأ الشراكة مع العالم وفق قواعد القانون الدولي، وهو مع الأسف ما لم تستوعبه أميركا، كما أنه يجعل في المقابل محاولات بايدن للعودة إلى الجبهة الأوروبية، كما كان الحال في مرحلة الحرب الباردة، غير مجد، وذلك من أجل استرجاع هيمنة لم تعد شروطها الداخلية والخارجية قائمة، بفعل التصدع الذي يعيشه النظام السياسي والاقتصادي الأميركي من جهة، وبروز أقطاب عسكرية واقتصادية قوية ومؤثرة تنهل من نمط الإنتاج الاقتصادي الليبرالي العالمي نفسه من جهة أخرى.