56 عاماً في الطريق إلى فلسطين
في البيدر الفلسطيني، تتجدّد ينابيع المد وإزالة الرواسب من مجرى شلالات العطاء المميّز للثورة الفلسطينيّة وحركة "فتح"، إذ ستبقى الإرادة والإصرار على أن تكون هذه الحركة العملاقة في ريادة الزاحفين نحو القدس.
56 عاماً من عمرها المرويّ بالتضحيات العظيمة عبرت خلالها الثورة الفلسطينية، ومعها الشعب الفلسطيني، الكثير من المنعطفات والممرات والمحطات الشديدة الصعوبة والتعقيد، وواجهت الكثير من التحديات الكبرى التي ألقت بثقلها على مسار تنامي الثورة وتطوّرها، وعلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، التي أشعلت ميلاد الكفاح الفلسطيني المسلّح، وتصدَّرت طليعة النضال، وحملت مشروع التحرير والمقاومة ضمن كبرى الصعوبات التي سبقت استكمال الفصل الثاني من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في عدوان حزيران/يونيو 1967 وأعقبته.
تقف الثّورة الفلسطينيّة وحركة "فتح" أمام مشهد مختلف عن المرحلتين اللتين مرتا في العقود الماضية، إذا ما صحّ تسميتهما مرحلتي ما قبل اتفاق "أوسلو" وبعده، إذ إنَّ لكلٍّ من تلك المرحلتين ظروفها وسماتها التي تختلف بصورة كبيرة عن الظروف الخاصّة بالوضع الفلسطينيّ الذاتيّ والأوضاع المحيطة على المستويات العربية والإقليمية والدولية، والتي تتشابه عند الحقيقة الراسخة لما تمثله القضية الفلسطينية كأساس في معادلة السلم والأمن العالمي.
الوضع الراهن
ليس هناك ما هو أعمق وأغنى وأدقّ من التحليل الشامل الذي قدّمه سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، في "حوار العام" الذي أطل فيه عبر قناة "الميادين"، والذي يشكّل في عناوينه والعديد من التفاصيل الأساس الأكثر صواباً ومصداقيةً للانطلاق في التحليل والتقييم واستشراف المستقبل، وفي بناء الرؤى القريبة والبعيدة المدى للواقع ومجرى التطورات المتسارعة للوضع في المنطقة والإقليم.
ولعلَّ الدعوة إلى التمحيص في هذا الحوار الثمين وتدقيقه سيوفر على الكثيرين أعباء البحث عن البوصلة الحقيقة التي تحدّد معالم الطريق في الصراع مع الكيان الإسرائيلي ومشروع الهيمنة الاستعمارية الذي تتزعّمه الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها في الغرب والإقليم.
قد يكون العام الأخير من عمر إدارة البيت الأبيض المهزومة بزعامة ترامب من الأعوام الأكثر خطورةً وضرراً على القضية الفلسطينية وما تراكم من تداعيات على مجموع الحركة الوطنية الفلسطينية وحركة "فتح" على وجه الخصوص، بعد تصاعد وتائر الهجوم الأميركي عبر ما سُمي بـ"صفقة القرن"، وبعد التساقط المتلاحق لعدد من الحكومات العربية والإقليمية في مستنقع العلاقة الرسمية والتعاون، وحتى التحالف مع الكيان الإسرائيلي، واتساع شهية الإلحاق والاستيطان والضمّ لتحديد معالم الجغرافيا السياسية للتسوية من وجهة نظر الأمر الواقع الإسرائيلي، وبعد انشغال دول العالم بأزماتها الخاصة، وتراجع الأولوية في التعامل مع الشأن الفلسطيني، وفي ظل تصدع ووهن التّأثير الفعلي لمنظمات المجتمع الدولي العاملة تحت مظلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
وكذلك الأمر بعد تجميد الاندفاعة التي كانت تسير في جهة إثمار الحوار الوطني الفلسطيني، وفتح الطريق لإنهاء أزمة الانقسام، وتجديد النظام السياسي الفلسطيني عبر بوابة الانتخابات الشاملة وإعادة بناء هيئات العمل الموحد على مختلف المستويات.
في المقابل، أمام ما ذكرناه وغيره من الأحداث والتطورات المؤثرة في الوضع الفلسطيني، ومع تنامي القناعة بانسداد أفق التسوية القائمة على مشروع "أوسلو"، والدعوة الملحّة لمراجعة المسار السياسي الرسمي الفلسطيني، فإنَّ إزاحة الستار عن المشهد الرسمي العربي أزالت الكثير من الأعباء والحسابات عن كاهل الفلسطينيين، وأتاحت المزيد من الفرص لتصحيح القراءة المباشرة الأوضاع الذاتية والمحيطة والتعامل مع الخيارات والأولويات الأكثر جدوى في تعزيز قدرات الشعب الفلسطيني وتمكين مقومات الصمود والاعتماد أكثر فأكثر على الإرادة الذاتية في استنهاض الطاقات وزجّها في مواجهة مخططات تصفية القضية الفلسطينية ومحاولات القفز عن الحقوق التاريخية غير القابلة للتصرّف للشّعب الفلسطينيّ.
هذا الانكشاف الصارخ في الحالة الرسمية العربية، ومن ثم الاصطفاف والانخراط في معادلات تمسّ جوهر الصراع في المنطقة ومع الكيان الإسرائيلي بالتحديد، أعطى الكثير من الفرص للتخلّص من دوامة الادعاءات الكاذبة بالوقوف خلف الموقف الرسمي الفلسطيني. وعلى عكس ما يعتقد البعض، فإنه أزال الكثير من الأوهام والغبار لمصلحة الحسم بشأن الأولويات المطلوبة من الجميع في القضايا العربية والفلسطينية على وجه الخصوص.
حركة "فتح" تصدّرت المرحلتين؛ الأولى في انطلاقة الثورة والكفاح المسلّح الفلسطيني، والمساهمة في تحرير المشروع الوطني من حالة التبعية والإلحاق والوصاية، والثانية في مسؤوليتها المباشرة عن قرار المفاوضات والتسوية منذ مؤتمر مدريد واتفاقية "أوسلو"، وإنشاء السلطة الفلسطينية في الحدود القائمة جغرافياً وسياسياً، والتي ما زالت تتحمل المسؤولية عن مسار التعامل مع الأولويات السياسية، سواء بشأن المفاوضات أو غيرها.
ومع كلّ ما شهدته الأوضاع الداخلية للحركة من تطورات كبرى، وأهمها اغتيال القائد المؤسس والرمز التاريخي للحركة والشعب الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات، فإنّها تمتلك قدرات وإمكانيات كبيرة للخروج من الممرات الإجبارية والسياسات الاضطرارية، واشتقاق البرامج والوسائل التي ترفع من مساهمتها النوعية لمراكمة عوامل القوة الفلسطينية ومواجهة أوهام البعض للتسليم بالإدارة الذاتية للأرض والسكان في إطار مشروع الحل الإسرائيلي، وكذلك لهذه الحركة الكبيرة التي ما زالت تقدم جبالاً من التضحيات البيئة المساعدة في صفوفها وبين أنصارها، لاقتلاع أية مصالح خاصة تحاول الاستثمار في عكس الاتجاه الذي يؤدي إلى إنجاز الأهداف الوطنية العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني.
بين حسابات الحقل والبيدر
في الحقل الإسرائيلي أوهام كثيرة لنتائج الدعم الهائل الذي أفرطت به إدارة ترامب، وسباق محموم لاستثمار ذلك في الحالة الداخلية بعد الفشل في تثبيت حكومة نتنياهو – غينتس، وما تواجهه مؤسسة الاحتلال من أزمات وتعقيدات ومخاوف، رغم ما وفرته التحالفات الجديدة مع بعض حكومات المنطقة من تسهيلات لتصدير الأزمات والبحث عن حلول بأقل الخسائر والأثمان.
أما في البيدر الفلسطيني، فهناك تطورات وحسابات أوسع وأكبر من الأوهام والصفقات التي سوّقتها وتقاضت ثمنها إدارة ترامب من حكومات البترودولار. وإلى جانب الصمود في وجه إملاءات الإدارة المهزومة والتماسك أمام الضغوط والحصار الشديد، فإن فرصة إعادة استكمال الحوار الوطني ما زالت قائمة، وكذلك الاتّفاق على برنامج عملي لتنظيم الانتخابات الشاملة لمؤسسات السلطة والمنظمة والتعامل مع نتائجها واحترام إرادة الشعب الفلسطيني وخياراته السياسية، وكذلك استمرار تنسيق الجهود الميدانية للتصدي لسياسات الاحتلال والدفاع عن القضايا والمصالح والهموم اليومية التي تتصاعد لاستهداف الصمود الشعبي والمساس بالإرادة الوطنية وإحباطها وتفريغها.
وعلى البيدر الفلسطينيّ كذلك، تتضاعف وتتطوّر قدرات وإمكانيات فصائل المقاومة واستعدادها للدفاع عن شعبها وتعزيز وحدتها الميدانية في مواجهة التطوّرات على جميع الأصعدة والمستويات. وقد جاءت رسالة "الركن الشديد" لتضاف إلى غيرها من الرسائل التي تؤكّد فشل مشروع الهيمنة على المنطقة وإخضاعها لسطوة الكيان الإسرائيلي والإدارة الأميركية.
إنَّ مستقبل الصراع المتصاعد يمضي في الاتجاه الّذي سيتحقّق فيه كسر معادلة موازين القوى، كما تحقّق فيه توازن الردع، إذ لن يكون ثمة خيارات لتحقيق الاستقرار والأمن العالمي سوى من خلال الإقرار بالحقوق الطبيعية المشروعة لشعوب المنطقة، وفي مقدمتها الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني.
وفي البيدر الفلسطيني، تتجدّد ينابيع المد وإزالة الرواسب من مجرى شلالات العطاء المميّز للثورة الفلسطينيّة وحركة "فتح"، إذ ستبقى الإرادة والإصرار على أن تكون هذه الحركة العملاقة في ريادة الزاحفين نحو القدس؛ عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة، ونحو اقتلاع الاحتلال الإسرائيلي الغاشم عن الأرض الفلسطينية والعربية.